لم يكن متوقعاً، من جانب العهد، أن يصادف تكليف الرئيس سعد الحريري كل هذه العراقيل. فالتسوية الرئاسية على قيد الحياة، وذكرى إنقاذه من الاستقالة السعودية حية أيضاً. والانتخابات النيابية أفرزت نتائج كان يمكن أن تنعكس إيجاباً، ولو بحصص متفاوتة، على حكومة وحدة وطنية، سلم كل الأفرقاء بها، ومؤتمر سيدر وضع الجميع أمام استحقاق إنجاز «إصلاحات» ينضوي تحتها الجميع.لكن ما فاجأ التيار الوطني الحر والعهد أن التصعيد، بدأ تدريجاً من القوات اللبنانية ومن رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط ، وبدا أن الرئيس المكلف ينساق خطوة تلو أخرى إلى هذا المسار، الأمر الذي بدأ يضعه في مواجهة مع العهد، ويهدد العلاقة معه.
تكاد فترة السماح للحريري تنتهي، هكذا تبدو الصورة عند العهد والتيار الحر اللذين كانا، حتى الآن، حريصين على عدم خلق أجواء توتر مع الحريري أو الاصطدام به. لكن رئيس الجمهورية لم يعد يخفي امتعاضه من الأسلوب الذي يعتمده الحريري في إضاعة الوقت. امتعاض عون و«التيار» مرده إلى أن الرئيس المكلف لم يقم بأي خطوة عملية في اتجاه التشكيل الفعلي، حتى أن هناك من يحسب له عدد الاجتماعات التي عقدها لتشكيل الحكومة، فلا تتجاوز عدد الأصابع العشرة. وهذا لا يمكن أن يسجل في خانة رئيس مكلف يريد أن يشكل حكومة بأي ثمن، إلا إذا كان مرتاحاً لوضعه رئيساً مكلفاً ورئيس حكومة تصريف أعمال، ويستمع إلى نصيحة خارجية بضرورة التريث في التأليف، ولعل النقطة الأخيرة هي الأكثر تداولاً في معظم المجالس السياسية.
ويكبر الامتعاض، بحسب المعلومات، لأن الحريري يتلطى خلف موقفي «القوات» وجنبلاط، فيبدو في الظاهر أنه يريد تلبية مطالبهما، لكنه في الحقيقة لا يتحرك من أجل تذليل العقد، ويتركها عالقة، ويرميها في ملعب رئيس الجمهورية. حتى أنه لم يضع تشكيلة صورية ويقدمها للعهد، ولو على سبيل فرض أمر واقع، أو حتى ولو أن عون لا يمكن أن يقبل بها.
هذا المسار، لم يعد بالنسبة إلى «التيار» والعهد، مجرد مناورة حكومية لتحصيل مطالب وتلبية شروط الأطراف السياسيين، بل محاولة جدية لعرقلة عمل العهد، والأخير لم يعد في إمكانه السكوت عنه. لذلك، كثر تركيز رئيس الجمهورية على مقاربة عقد التأليف، وستتصاعد تدريجاً لهجة «التيار» ضد الحريري، على رغم كل المحاولات التي جرت حتى الآن لمنع الاصطدام به وإحداث مشكلة حقيقية ومباشرة معه.
كانت الأمور، حتى الآن، تصب في خانة الخلاف بين «التيار» و«القوات» وعدم حسم حصة جنبلاط درزياً، مع تحييد الحريري. لكن هذا المنحى سيتبدل قريباً، ويبدو أن التيار الحر سيكون أمام تحد حقيقي، إما ترك الوضع الحكومي معلقاً فيخسر العهد، وإما أن يبادر إلى مواجهة أقرب إلى الصدمة، كي تكون سبيلاً إلى إخراج الحكومة، والأرجح أنه سيختار الثانية.
وما يمكن أن يدفع أكثر في هذا الاتجاه بغية تأليف سريع للحكومة، أمران تؤكد المعلومات أن البت بهما أصبح منتهياً: أولاً توزع الأرقام أصبح محسوماً، عشرة وزراء لرئيس الجمهورية والتيار وأربعة للقوات اللبنانية وواحد للمردة. وهذا يعني أن لا ثلث معطلاً لأي فريق، ولن يعطى للتيار والعهد حتى يتفردا به. وتوزع الحصص أصبح بحسب المعلومات وراء الذين يتفاوضون. تبقى عقدة جنبلاط، وهي قابلة للحل، لأن جنبلاط أيضاً يرفع سقف التفاوض كي يحسن شروطه ويحصل على حصة وزيرين و«نصف»، وثمة قناعة أن الحريري قادر عند لحظة الحسابات الأخيرة أن يتفق مع جنبلاط على الوزير الثالث. أما الأمر الثاني فهو أن نائب رئيس الحكومة من حصة رئيس الجمهورية.
ولأن الانتهاء من توزع الأعداد مسيحياً حسم بالنسبة إلى العهد، بدأت مرحلة النقاش الحقيقي حول الحقائب. لا نيابة رئاسة حكومة للقوات اللبنانية، ولا حقيبة دفاع أو خارجية. رئيس الجمهورية لم يوافق على إعطاء حقيبة سيادية للقوات من حصته، ولم يمانع في المطلق حصولها عليها، لكن الكرة في ملعب الحريري. هناك التباس بين من يرفض ومن يؤيد إعطاء الدفاع أو الخارجية للقوات، هل يقبل حزب الله، بخطاب وزير للدفاع أو للخارجية يتناول فيه سلاح حزب الله ويعرض موقعه ووضع المقاومة لأي مساءلة أو انتقاد من على المنابر الخارجية والعسكرية. فالقصة أبعد من مجرد وزير للدفاع لا قرار حقيقياً في يده، وتالياً فالدفاع والخارجية من حصة رئيس الجمهورية والتيار الحر كما هي الحال في الحكومة الحالية. ولأن الداخلية والمال باتتا محسومتين، فإن نقاش الحقائب سيتخذ من الآن وصاعداً بعداً آخر.
عون لم يوافق على إعطاء حقيبة سيادية للقوات من حصته، ولم يمانع في المطلق حصولها عليها


ثمة ثلاث حقائب خدماتية تشكل أولوية هي الأشغال والصحة والتربية، على رغم أن النقاش مستمر حول حقيبتي الاتصالات والطاقة، على رغم تمسك المستقبل بالأولى والتيار الحر بالثانية. تتحول الأشغال مطلباً أساسياً لكل من القوات اللبنانية والمردة والتيار الحر. كلام الوزير جبران باسيل فتح ملف الانتقاد حول أداء تيار المردة واتهام التيار الحر له باستهدافه من خلال مشاريعها التي استبعدته. قد تكون المعركة المقبلة في توزع الحقائب أكثر تصلباً من معركة العدد. لأن القوات لن تتراجع عن السيادية، وإذا قبلت بأربع حقائب من دون السيادية، فإنها لن تقبل بأقل من وزارات كبرى كالأشغال والتربية والصحة. لكن يبدو أن حزب الله يطالب بالصحة، كحقيبة خدماتية أولى، خلافاً لما جرت عليه العادة في الحكومات السابقة، ويطالب بها جنبلاط أيضاً. ما يعني أن الكباش انتقل إلى المستوى الثاني من عقد التأليف قبل حسم الأعداد.
ثمة سؤال جوهري إذا كان العهد حريصاً على تشكيل الحكومة، والقوات اللبنانية وجنبلاط يعرقلانها بحجة العدد أو الحقائب، والحريري يتلطى خلفهما، فلماذا لا يتنازل العهد، خصوصاً أن منصب نائب رئيس الحكومة منصب شرفي أكثر منه منصب عملي.
لا شك أن هذا السؤال متداول. هناك من يدافع عن وجهة نظر التيار الحر بالقول إن أي تنازل للقوات اللبنانية اليوم يعني تنازلاً سياسياً حتى لو كان المنصب شرفياً، خصوصاً بعدما كبر الخلاف بينهما إثر تسريب ورقة التفاهم. وعاجلاً أم آجلاً ستتشكل الحكومة وسيضطر الجميع إلى تقديم تنازلات من أجل تشكيلها، علماً أن القوات وجنبلاط يلعبان حالياً لعبة الفيتوات التي طالما استخدمها عون في الحكومات السابقة حين كان يناور لأسابيع وأشهر، واثقاً أن لا حكومة من دونه. القوات وجنبلاط يعرفان هما أيضاً ذلك. ويمارسان اللعبة نفسها، ويرميان الكرة في ملعب رئيس الجمهورية، فإذا أراد تشكيل حكومة، فليدور الزوايا وإلا فلينتظر الجميع كلمة السر الخارجية.