في السياسة اليومية، توزيع حقائب، وفي السياسة الحقيقية، ملفات كثيرة عالقة تتعلق بمستقبل البلد، ومنها مصالحة الجبل. هي ليست مصالحة موسمية، ولا يمكن عند أي تمثيل وزاري، أو احتكاك سياسي يمسّ بطريقة أو بأخرى، الحزب التقدمي الاشتراكي ورئيسه وليد جنبلاط، وعلاقته مع القوى المسيحية، أن تتصدر المصالحة البند الأول، في جدول الأعمال السياسي، من باب الدعوة إلى حمايتها. ولا يمكن التعامل مع الواقع السكاني المتدهور في الجبل فقط عند حدوث مشكلة ما، أو مع موسم الانتخابات، وابتداء فصل الصيف. المصالحة لا تتم إلا حين يعود أبناء الجبل إليه، لا أن يكونوا مجرد سياح، والمسؤولية هنا، ليست مسؤولية جنبلاط وحده.ثمة إشكالية تتعلق بالمصالحة، لا يعرفها إلا من عرف حرب الجبل، ورافق مسيرة المصالحة. فهذا الملف لا يجب أن يقف أو تتناساه القوى المعنية ولا تتذكره إلا غبّ مصالحها السياسية. نعم، هناك أكثر من مسؤولية تتحملها القوى المسيحية بقدر ما يتحملها جنبلاط، كما الكنيسة والمطرانيات المعنية والرهبانيات المارونية تحديداً.
أولاً، منذ أن عقدت المصالحة قبل عشرة أعوام وأكثر يجري التهويل الدائم بفرطها عند أي إشتباك سياسي بين جنبلاط والقوى السياسية، كما حصل مع التيار الوطني الحر في أكثر من محطة، سواء انتخابية أو عندما تفاقمت مشكلة المطران الياس نصار، وهنا لبّ المشكلة، فالمصالحة لا تحتاج كل يوم إلى إعادة التذكير والمطالبة بحمايتها، لو كانت مبنية على أسس واضحة ومتينة وعميقة. فإما عقدت المصالحة أو لم تعقد، خصوصاً أنها تمت على مستوى رفيع حينها وفرضت إيقاعاً مختلفاً، استفاد منه جنبلاط كما القوى السياسية الأخرى التي عادت إلى الجبل على وقع المصالحة التي أرستها بكركي.
ثانياً، بقدر مسؤولية جنبلاط، سابقاً وحالياً ومستقبلاً، في تعزيز المناخ الإيجابي، إلا أن القوى المسيحية، تتحمل أيضاً جزءاً كبيراً في عدم الانتقال من مرحلة الحرب والمصالحة إلى مرحلة العيش الدائم في الجبل. مسؤولية المسيحيين، تتعدى الحملات الانتخابية ونبش ذاكرة الحرب في الجبل، لأن الجميع، بمن فيهم رئيس الجمهورية ميشال عون والدكتور سمير جعجع والرئيس أمين الجميّل، كان لهم دورهم في هذه الحرب. وهم شاركوا أو تسلموا السلطة والوزارات المعنية التي كان يمكن أن تساهم في تثبيت دعائم العودة منذ عام 2005 من وزارة الصحة إلى الشؤون الاجتماعية ووزارة الطاقة والمياه والتربية والسياحة والصناعة والمهجرين والبيئة، وكلها وزارات كانت قادرة عبر مشاريع وخطوات ومبادرات على تأمين متطلبات أساسية لإعادة الناس إلى قراهم.
هنا، من المفيد السؤال: ماذا حقق وزراء القوى المسيحية في هذه المناطق، ومنهم من أصبحوا نواباً اليوم، وماذا أنجزوا على صعيد ترتيب أولويات تساهم في إنجاز خطط عملية صحية وتربوية وإنمائية. وماذا حقق نواب الجبل من كل التيارات المسيحية، في منطقة الشوف وعاليه، عدا حضورهم المآتم فيها، والقيام بجولات انتخابية لا يرون فيها تلال النفايات التي تملأ الأودية، فضلاً عن الخطاب السياسي الذي إن اشتعل لغايات انتخابية، فلا بد أن يترك ندوباً وحساسيات.
وبرغم أن الجيش يؤمن انتشاراً شاملاً في هذه المنطقة التي لم تسجل فيها أي حوادث أمنية تذكر منذ سنوات، إلا أن التجربة علمت أن أي احتكاك سياسي كما حصل إبان الانتخابات الأخيرة كفيل بإعادة نكء جروح الحرب بكل مفاعيلها السيئة.
أين دور نواب المنطقة، حين يصبح سكانها الفعليون من غير أهلها، وحين تشهد حركة بيع عقارية متنامية، وتغييراً ديموغرافياً ليس على السجلات الرسمية، بل في الواقع الحياتي. فهل يرون الانفلاش السكاني لمجموعات النازحين والعمال السوريين ممن يعملون فعلياً في المنطقة ويشرفون على إدارة شؤون أراضيها وحتى منازلها في غياب السكان الأصليين؟ وأين الأحزاب المسيحية من تشجيع العودة، لا مجرد رمي اتهامات وفتائل تفجير سياسي من دون طائل؟
دور الرئاسة حالياً في الجبل، أعلى من مجرد «تكريس» صيفية الرئيس في قصر بيت الدين


ثالثاً، دور رئاسة الجمهورية اليوم، يختلف عن السابق، لأنه آتٍ إلى بعبدا ممثلاً لتيار سياسي كانت له ملاحظات على ما حصل منذ المصالحة. لكن يفترض أن يتخطى دوره مصالح التيار الوطني واشتباكاته السياسية، خصوصاً بعدما سبق للتيار أن عرف احتكاكات مع جنبلاط، تقاطعت أحياناً مع رجال إكليروس وقفوا ضد المصالحة بالمعنى الذي كرسته بكركي. فدور الرئاسة حالياً في الجبل، أعلى من مجرد «تكريس» صيفية الرئيس في قصر بيت الدين، حتى لا تصبح كإقامة أهل الجبل في الويك إند فقط في قراهم.
رابعاً، لا يمكن القفز فوق دور الصندوق المركزي للمهجرين ووزارة المهجرين على مدى عقود، في الإحاطة بمشكلة الجبل الإنمائية والإعمارية، ولا سيما أن القوى المسيحية سجلت أكثر من مرة ملاحظات على أداء الصندوق وتوزيعات وزارة المهجرين الانتقائية. يمكن فرد مساحة خاصة للكلام عمّا حققه الصندوق والوزارة، معاً، في تأمين عودة المهجرين. لكن ثمة لبنة أساسية وضعها الطرفان، وإن لم تساهم في شكل كامل في تأمين متطلبات العودة الشاملة، لأن القضية أولاً وآخراً سياسية، وأكبر من مجرد صرف الأموال لبناء منازل في قرى وبلدات تفتقد الحد الأدنى من متطلبات العيش في قرى لا يزال طابعها الأساسي أنها خالية من سكانها.
خامساً، تتحمل الكنيسة والرهبانيات والمطرانيات المعنية مسؤولية كبيرة في عدم الانخراط بدورة الحياة اليومية في منطقة الشوف وعاليه بعد انتهاء الحرب. لم تعد التبريرات الكثيرة التي تعطيها هذه المؤسسات الكنسية مقنعة، في عدم تثبيت حضورها المدرسي والجامعي في منطقة الشوف، ما خلا خطوة جامعة سيدة اللويزة. فمناطق عاليه والشوف، تفتقر إلى المدراس التي تتبع عادة لهذه المؤسسات الكنسية، وتوحي بالثقة للأهالي كي يعودوا إلى السكن في بلداتهم، ناهيك عن عدم وجود مستشفيات أو بالحد الأدنى مستوصفات طبية عالية الجودة. فبناء الأديرة والكنائس الواحدة تلو الأخرى في قرى شبه ميتة، على أهميتها، والاحتفالات بالأعياد الدينية التي بدأت، عند مواسم الصيف كما في المهرجانات، وإغلاق الكنائس شتاء، لا يشكل بنية حقيقية كي تتم العودة الكاملة التي تثبت حينها المصالحة الشاملة. ولا يمكن بعد مرور أكثر من 25 عاماً على انتهاء الحرب، أن تتعامل الكنيسة بكل مؤسساتها مع مناطق الشوف وعاليه، من باب المؤقت لا الدائم.