بتاريخ 20 حزيران 2018، نشرت صحيفة «النهار» مقالاً للزميل محمد نمر بعنوان: «عماد كريدية: هذه حقيقة راتبي»، يردّ فيه رئيس هيئة أوجيرو على ما ورد في «الأخبار» عن المبالغ والمخصصات الضخمة التي يتقاضاها من المال العام، والتي بلغت، في شهر أيار 2018 وحده 112 مليون ليرة لبنانية (75 ألف دولار). بداية، لم ينكر كريدية أنه تقاضى هذا المبلغ في نهاية شهر أيار، لكن شرحه كان مفيداً حول كيفية الوصول إليه (الراتب الشهري 48 مليوناً و549 ألف ليرة، يضاف إليه 98 مليون ليرة هي مجموع الدرجات الأربع بمفعول رجعي من أيلول 2017 و4 ملايين ليرة فارق شهر 14 /2017 و5 ملايين ليرة فارق احتساب إكرامية نهاية 2017). بناءً عليه، يخلص إلى أن مجموع ما استحقه عن ذلك الشهر كان 151 مليوناً و989 ألف ليرة (جمع «المستحقات» السابقة يبين أن المبلغ الإجمالي هو 155 مليوناً و989 ألف ليرة، أي أكثر بأربعة ملايين عن المبلغ المعلن)، لكن بعد اقتطاع الضرائب يصبح المجموع 111 مليوناً (بحسب كريدية والحسبة الخاطئة).
كان الاعتراض حينها على أن مبلغ الـ112 مليوناً هو مبلغ استثنائي أوحت «الأخبار» أنه الراتب الشهري الدائم. وبناءً عليه، حسم كريدية النقاش، مؤكداً في المقابلة نفسها أن راتبه الشهري هو 48.549 مليون ليرة. هنا تبدأ القصة تحديداً، إذ إن هذا الرقم «العادي» الذي يعتبره كريدية، في المقابلة، غير كبير «مقارنة مع المديرين العامين الآخرين أو رؤساء مجالس الإدارة»، بالرغم من أنه يزيد على ضعف الراتب الذي يتقاضاه أي مدير عام، حُدِّد ربطاً بأساس الراتب البالغ تسعة ملايين ليرة.
لمزيد من الشفافية، يوضح كريدية أن هذا المبلغ حدده حسب الأصول وزير الاتصالات جمال الجراح، بناءً على قرار خطي صدر بتاريخ 17/2/2017 ويحمل الرقم 648/أ/و، حدد بموجبه أساس الراتب الشهري لمدير عام أوجيرو بتسعة ملايين ليرة، إضافة إلى تكليفه بـ200 ساعة عمل شهرية إضافية. لمزيد من الدقة، عرض كريدية لـــ«النهار» صورة عن المستند، تبين جزءه الأعلى.

راتب كريدية بقرار وزاري!
«بقرار وزير صار الراتب الأساسي لكريدية 9 ملايين». تلك عبارة لا يمكن أن تمرّ مرار الكرام على خبير في القانون الإداري. هي فضيحة بكل ما للكلمة من معنى، لأن الراتب لا يحدَّد بقرار من وزير، بل يحتاج ــ بحسب قانون أوجيرو ــ إلى مرسوم صادر عن مجلس الوزراء.
تلك قاعدة عامة اعتمدها لا تقتصر على قانون أوجيرو. رواتب وتعويضات ومستحقات كل المديرين العامين في الإدارات العامة والمؤسسات العامة على اختلافها، ورواتب وتعويضات وبدلات حضور رؤساء وأعضاء مجالس إدارة المؤسسات العامة والهيئات العامة المستقلة...، تحدد بموجب مراسيم تتخذ في مجلس الوزراء، يوقعها رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة ووزير المالية والوزير المختص.
بناءً على ذلك، إن المرسوم الوحيد الساري المفعول الذي يحدد الراتب الأساسي لـ«رئيس الهيئة ــــ المدير العام» هو المرسوم رقم 3157 الصادر في 5 حزيران 2000 (موقع من الرئيس إميل لحود ورئيس مجلس الوزراء سليم الحص ووزير المالية جورج قرم ووزير البريد والمواصلات السلكية واللاسكلية عصام نعمان). ينص ذلك المرسوم على ما حرفيته «تحدد التعويضات الشهرية لهيئة إدارة أوجيرو على الشكل التالي: رئيس الهيئة المدير العام أربعة ملايين ليرة لبنانية، عضو الهيئة مليونا ليرة لبنانية».
هل يمكن أحداً القول إن المرسوم السابق لم يعد مطبقاً؟ ربما، لكن مرسوم تعيين كريدية يحسم النقاش سريعاً، إذ يشير في بناءاته إلى «المرسوم رقم 3175 تاريخ 5/6/2000 المتضمن تحديد التعويضات الشهرية لرئيس وعضوي هيئة أوجيرو». وهذا يعني أن المرسوم الوحيد الصالح لتحديد تعويضات كريدية هو مرسوم عام 2000، فكيف يجاهر كريدية بأن وزير الاتصالات وقّع قراراً قضى بتحديد راتبه بـ 9 ملايين ليرة، فيما يفترض أن لا يزيد أساس راتبه على أربعة ملايين؟
هل وقّع وزير الاتصالات فعلاً قراراً يعدِّل فيه مرسوماً؟ ألا يدرك وزير الاتصالات ومستشاروه وكريدية ومستشاروه أن هنالك قاعدة قانونية تسمى «الموازاة الأشكال» (لا يعدل قانون إلا بقانون ولا يعدل مرسوم إلا بمرسوم ولا يعدل قرار إلا بقرار)، أم أن كريدية أراد التعمية على المخالفات المرتكبة وتضليل الرأي العام عبر مستندات ومعلومات غير صحيحة؟
الأكيد أن الجراح وكريدية يدركان أن كل مبلغ صرف ويصرف خلافاً لهذه المراسيم والأصول الواردة فيها، يُعَدّ صرفاً غير قانوني للمال العام. فهو أجر غير مستحق ويجب استرداده فوراً للخزينة العامة، ويُسأل عنه الوزير المعنيّ والموظف المعنيّ أمام المراجع الرقابية والقضائية المختصة من مالهما الخاص.
بناءً عليه، ربما حان الوقت لتتدخل النيابة العامة المالية، فتوضح من المتورط في الفضيحة التي ترتب عنها هدر كبير في المال العام.

مستند غير موجود
لم تكتمل عناصر الفضيحة بعد. عند استيضاح الدوائر المعنية في وزارة الاتصالات لمعرفة ماهية القرار الصادر عن الوزير الجراح، تبين أن هذا المستند «غير موجود أصلاً في سجلات أمانة سر الوزير الجراح وغير موجود في سجلات المصلحة الإدارية المشتركة لعام 2017». وأكثر من ذلك، يشير المصدر إلى أن «القرار رقم 648/أ/و يعود لمراسلة إدارية لا دخل لها مطلقاً بالموضوع المذكور، وهي غير موجهة أساساً لهيئة أوجيرو». فهل هذا يعني أنه جرى تضليل الرأي العام من خلال نشر مستند رسمي مفبرك لا علاقة له بعمل كريدية ولا صلة له به؟
إن صحّ ذلك، من يكون المتورط في هذه الحالة؟ هل هو وزير الاتصالات أم رئيس أوجيرو؟ ثم، ما دور الجهات المعنية في أوجيرو (الموارد البشرية، الرقابة الداخلية، والمالية)؟ هل هي متورطة أيضاً؟
الجرّاح يخالف مرسوماً بقرار: راتب كريدية من 24 مليوناً إلى 48 مليوناً


بغضّ النظر عن خلفية القرار الذي كشف عنه كريدية لـــ«النهار»، والذي يفترض بالهيئات الرقابية التحقق مما إذا كان موجوداً فعلاً أو لا، فإن مضمونه قد نفذ على ما أكد كريدية، خلافاً للأرقام التي وردت في الدراسة التي سبق للوحدات الإدارية في أوجيرو أن أعدتها، بما يتناسب مع المراسيم الصادرة بهذا الخصوص. راتب كريدية كان يفترض أن يكون، قبل تنفيذ السلسلة، 6 ملايين و388 ألف ليرة من دون احتساب الساعات الإضافية (4 ملايين ليرة راتب أساسي حسب مرسوم عام 2000 + 200 ألف ليرة حسب مرسوم غلاء المعيشة عام 2008 + 299 ألف ليرة حسب مرسوم غلاء المعيشة عام 2012، يضاف إليه 42 في المئة من الراتب بدل اختصاص، أي ما يعادل مليوناً و889 ألف ليرة). غير أنه بنتيجة التلاعب الذي حصل، من دون العودة إلى مجلس الوزراء، ارتفع الراتب الشهري الإجمالي (مع بدل الاختصاص) إلى 12.8 مليون ليرة بدلاً من 6.4 ملايين ليرة. ومع احتساب 200 ساعة إضافية (قررها الوزير أيضاً)، ترتفع المقبوضات الشهرية الإجمالية لكريدية إلى 36.9 مليون ليرة لبنانية بدلاً من 18.4 مليون ليرة، كان يفترض أن يتقاضاها شهرياً في الفترة الممتدة بين تسلُّم منصبه في شباط 2017 وشهر آب (الشهر الأخير قبل تطبيق السلسلة). وبذلك يكون كريدية، قد تقاضى خلال تلك الفترة، خلافاً لكل الأصول المالية وللمراسيم الصادرة عن مجلس الوزراء، مبلغاً إضافياً لا يستحقه يبلغ 138 مليون ليرة.

393 مليون ليرة مجمل المقبوضات
ما بعد الزيادة الناتجة من سلسلة الرتب والرواتب، أي ابتداءً من أيلول 2017، التي قضت بإعطاء العاملين في هيئة أوجيرو زيادة استثنائية في الرواتب تقدَّر بأربع درجات، أي نحو 31% على أساس الرواتب، كان من المفترض أن يصبح الراتب الشهري الإجمالي لكريدية (مع بدل الاختصاص 42%) 8.1 ملايين ليرة دون احتساب ساعات العمل الإضافية، وأن تصبح المقبوضات الشهرية الإجمالية على أساس 200 ساعة عمل شهرية إضافية بقيمة 24.1 مليون ليرة. لكن ما حصل بنتيجة قرار الجراح (تحديد الراتب الأساسي بتسعة ملايين ليرة) أن الراتب صار 16.8 مليون ليرة بدلاً من 8.1 (من دون احتساب ساعات العمل الإضافية)، فيما وصلت قيمة المقبوضات الشهرية الإجمالية إلى 48.5 مليون ليرة بدلاً من 24.1 مليون ليرة. ذلك يعني أن كريدية قد قبض منذ أيلول وحتى حزيران مبالغ لا تُستحق له تبلغ 255 مليون ليرة، ما يرفع إجمالي المبالغ التي قبضها، بتغطية من الجراح، وبالتواطؤ أيضاً مع بعض المديرين المعنيين والموظفين في هيئة أوجيرو، منذ تاريخ تسلّمه لمهماته لغاية شهر حزيران 2018، 393 مليون ليرة.
مع كل ذلك، وبصراحة مطلقة، لم يتردد كريدية بالقول لـــ«النهار»: «أقود مؤسسة تقدم للدولة ما بين 500 إلى 600 مليون دولار، وإذا كان راتبي لقاء ذلك 15 مليون ليرة، فهم حينها يدعونني إلى السرقة». هل قيمة الراتب تحدد مقدار «السرقة»؟



200 مليون ليرة بدل ساعات إضافية وهمية
ورد على لسان رئيس هيئة أوجيرو عماد كريدية في «النهار»، ما حرفيته: «أعمل 186 ساعة إضافية شهرياً موثقة في سجلات أمانة سر الهيئة طوال سنة و5 أشهر». غير أنه يتقاضى فعلياً أجراً إضافياً عن 200 ساعة شهرية إضافية، أي باحتساب 14 ساعة وهمية إضافية شهرياً لمصلحته دون أن يعملها. وهذا ما يعادل أجراً يتقاضاه لقاء عمل لا يؤدى يقدَّر بـ 2.5 مليون ليرة شهرياً منذ سنة وخمسة أشهر، أي ما مجموعه 42.5 بدل ساعات إضافية غير مستحقة.
لكن كريدية يقول أيضاً في المقال المذكور ما حرفيته: «أحضر يومياً من الساعة التاسعة صباحاً، ولا أغادر قبل الساعة 11 ليلاً». ما يعني أنه يعمل يومياً وبشكل فعلي بمعدل 6 ساعات عمل إضافية فقط، أي ما يقدر شهرياً بنحو 126 ساعة إضافية، وليس 200 ساعة (على أساس أن عدد أيام العمل الفعلي الوسطي في الشهر هو 21 يوماً، بما فيها يوم الجمعة، حيث ينصرف العمال باكراً). أي إنه يقبض بدلاً مالياً عن 74 ساعة إضافية وهمية شهرياً من دون أن يؤدي أي عمل لقاء ذلك، وهذا ما يعادل 12.2 مليون ليرة شهرياً، ويوازي 207.4 ملايين ليرة خلال فترة توليه منصبه. ومع إضافة هذا المبلغ التقديري إلى المبالغ غير المستحقة التي نالها جراء القرار المشبوه لوزير الاتصالات (393 مليون ليرة)، يصبح إجمالي ما يفترض أن تسترده الدولة اللبنانية من كريدية 600 مليون ليرة عداً ونقداً.