لا تتمسك القوات اللبنانية بحقيبة وزارة الدفاع. لكن الآخرين يتمسكون برفضهم إعطاءها لها، فممنوع منح القوات هذه الحقيبة حتى إشعار آخر. من المبكر القول إن عقدة تأليف الحكومة في طريقها إلى الحل. لأن عقدة الحقيبة السيادية التي تطالب بها القوات لا تزال على حالها. بين أربع حقائب أساسية، وُزِّعَت الحصص مناصفة بين مسيحيين ومسلمين. يتمسك تيار المستقبل بالداخلية، والرئيس نبيه بري بالمال، فيبقى للمسيحيين وزارتا الدفاع والخارجية. نظرية الوزير جبران باسيل تقضي بألّا تُعطى القوات أي وزارة سيادية من حصة المسيحيين، ولا يمكن قطعاً التكهن بأن بري سيتخلى عن المال، أو الرئيس سعد الحريري العائد مجدداً إلى ترطيب الأجواء والتفاهم مع معراب سيتخلى عن الداخلية. فلا يبقى حينها إلا التفاهم على الحصص المسيحية. وبين الخارجية والدفاع، لا مشكلة لدى القوات في تولي أي منهما، رغم أنها عالمة أن باسيل لن يرضى أن يتخلى عن الخارجية التي بات لها في الحكومة العتيدة منظار آخر، وهو يستعد لبناء مستقبله الرئاسي، خارجياً وداخلياً.
تكمن عقدة الدفاع في السؤال جدياً لماذا ممنوع على القوات أن تتولاها، وهو الأمر نفسه الذي طرح عند تشكيل الحكومة الحالية في العام الفائت، واستُبدل بها حينها منصب نائب رئيس الحكومة؟ ولماذا كلما فتح كلام سياسي من هذا النوع، يعاد التذكير بتاريخ القوات خلال الحرب، بخلاف غيرها من القوى السياسية، وسجن سمير جعجع في وزارة الدفاع؟
الجواب الأسهل عند عونيين سابقين أن القوات حاربت الجيش وأن الجيش لن يقبل قواتياً على رأس وزارة الدفاع، وأن رئيس الجمهورية نفسه يرفض ذلك، وأن حزب الله لن يرضى كذلك بوزير قواتي داخل ساحة يعتبرها في مكان ما آمنة وصديقة، إن لم يكن أكثر. يضاف إلى ذلك أن صلاحيات وزير الدفاع كثيرة في ما يتعلق بشؤون الجيش الداخلية، وأنّ من المستحيل في ظل موازين القوى الداخلية أن يصل قواتي بكل الأبعاد السياسية المحلية والخارجية التي يحملها إلى اليرزة.
ثمة ملاحظة أساسية يبديها أحد السياسيين الموارنة، تكمن في السؤال عن علاقة التيار بالجيش، ولماذا يصرّ التيار الحر على التعامل مع الجيش وكأنه وإياه جسماً واحداً. فالمعركة حصلت في أواخر الثمانينيات بين الجيش والقوات حصراً، أي إن القوات لم تحارب التيار الوطني، فلماذا يعتبر التيار أن الجيش حصته وحده ويعطي لنفسه حق رعاية شؤون المؤسسة العسكرية واتخاذ قرار التوزير أو عدمه في حقيبة الدفاع؟
الأكيد أن حرباً وقعت بين القوات والجيش اللبناني، لكن الأكيد أيضاً أن «ذلك» الجيش كان بإمرة قائده آنذاك العماد ميشال عون، لكنها لم تكن معركة عسكرية بحت منزهة عن القالب السياسي الذي طبع تولي عون الحكومة الانتقالية، فالحرب بينهما تفرعت وتوزعت إلى محاولات السيطرة مسيحياً وضبط الميليشيات. منذ ذلك التاريخ، تبدلت معطيات كثيرة في الجيش وفي علاقته مع القوات، وتبدلت أيضاً مسيرة القوات تجاه الحروب التي خاضتها وقد طوى رئيسها الدكتور سمير جعجع صفحتها مع الاعتذار الذي قدمه. والأهم أن عون وجعجع أقفلا ملف الصراع بينهما، ووقّعا تفاهماً رئاسياً وسياسياً وحكومياً، والأبرز شعبياً، لأنه سحب فتيل التوتر والخلافات الدامية بين جمهوري الفريقين. فكيف يمكن طيّ هذا الخلاف، ويوافق جعجع على ترئيس عون، ويوافق الأخير حين زار معراب على ورقة التفاهم بكل أبعادها، ولا تطوى صفحة المعارك العسكرية التي وقعت بين الجيش والقوات؟ وكيف طويت صفحة الخلاف بين الجيش وحركة أمل وما بينهما 6 شباط الشهيرة، والجيش والحزب التقدمي الاشتراكي، بعد المعارك التي جرت بينهما في ظل قيادة عون نفسه في جبل لبنان الجنوبي؟
القوات لم تحارب التيار الوطني، فلماذا يعتبر التيار أن الجيش حصته وحده، ويعطي لنفسه حق رعاية شؤونه؟


من ناحية الجيش، فقد تغير هو الآخر على مدى السنوات التي تلت مرحلة الحروب الداخلية، وتعايش في المنحى العسكري والسياسي الذي سار به مع الإطار السياسي العام، من عهد العمادين إميل لحود وميشال سليمان، إلى عهد العماد جان قهوجي، وصولاً إلى العهد الحالي بقيادة العماد جوزف عون. فقد عرف الجيش متغيرات كثيرة في أدائه وفي طبيعة علاقته بالطبقة السياسية. لكن استعادة الجيش اليوم بعضاً من الروح العونية بفعل علاقات قديمة أو حالية وتنسيق دائم مع الضباط المكلفين في القصر الجمهوري متابعة العلاقة اليومية مع قيادته، يطرح جدياً السؤال كيف سيتعامل الجيش مع واقع مستجد كمثل حضور وزير قواتي في وزارة الدفاع؟
السؤال يمكن التعاطي معه بجدية في نقطتين: الأولى، أن الجيش يفترض أن يكون في إمرة القيادة السياسية لا العكس. والجيش بإمرة مجلس الوزراء ورئيس الجمهورية. والجيش استمرارية، فالقوات أعادت تطبيع العلاقة مع الجيش في عهد القيادة السابقة للجيش، ولم يعد هناك أي توتر بين الطرفين. لا بل إن القوات لم تسجل أي اعتراض على تولي القائد الحالي مهمات القيادة. علماً أن القوات تشهد محاولات لإعادة بثّ خلاف سياسي يتعدى الإطار السياسي التقليدي فهي مسألة أخرى، كما حصل في ملف السفير اللبناني في واشنطن والقوات، رغم أن الأخيرة سجلت اعتراضها على محاولة بث الفتنة مع الجيش وأوضحت لمن يعنيهم الأمر كامل التفاصيل المتعلقة بموقفها في واشنطن. أما النقطة الثانية، فهي أن إعطاء القوات وزارة الداخلية مثلاً يمكن أن يطرح إشكالية أخرى، فقوى الأمن الداخلي والأمن العام تابعان أيضا لوزراة الداخلية، فهل يقدر الجهازان أن يرفضا تولي وزير قواتي الحكومة، مع كل الملفات الأمنية الحساسة التي في حوزتهما؟
القوات في اليرزة لا تزال أمراً يصعب تصديقه، وأن نرى وزيراً قواتياً يرافق رئيس الجمهورية في زياراته المتعددة للمراكز العسكرية وفي احتفال الأول من آب وعيد الاستقلال، لا يزال مشهداً عبثياً.