بالمناسبة، صحيح أنّ عقيص لم يُطرد مِن القضاء، وأنّه لم يُسجّل بحقّه سلوك شائن، وأنّه هو مَن بادر إلى الاستقالة، إلا أنّه حاول أن يُظهر خطوته هذه على أنّها «ثورة» عدليّة. لكن أين المهرب مِن الأرشيف؟ في مقابلة لصحيفة «النهار» معه (عام 2012) نجده يقول إنّ «الغربة في القضاء هي ما دفعته إلى الاستقالة». قدّم المسألة على أنّها خطوة في سبيل تعزيز استقلاليّة القضاء، وفصله عن السياسة، وأنّه استقال «لأن القضاء في لبنان ليس بخير». هنا تأتي أهميّة ما كشفه جريصاتي في ردّه على عقيص. الأوّل تحدّث أنّ الثاني ترك القضاء فعلاً، لكنّه حاول، أكثر مِن مرّة، أن يعود إليه، لكن مِن دون جدوى. كان مجلس القضاء الأعلى يرفض ذلك، لا لأسباب شخصيّة، في الظاهر، بل بسبب «قانون الموظّفين».
حاول عقيص على مدى سنوات العودة إلى القضاء رغم تظهيره لاستقالته كعمل ثوري
حصلت «الأخبار» على نسخ مِن رسائل عقيص إلى مجلس القضاء الأعلى، بداية مِن عام 2010، ورسائل إلى أكثر مِن وزير عدل تعاقب على الوزارة، يطلب فيها العودة، لكن مِن دون نتيجة. هنا السؤال، هل أصبح القضاء رائعاً، خالياً مِن السياسة والدسم، حتّى قرّر عقيص العودة إليه؟ إذاً، لِمَ تلك العراضات «الثورجيّة» والشعارات «المبهبطة»؟ في الواقع، عقيص كان يُريد أن يُغادر إلى دولة الإمارات العربيّة المتّحدة للعمل هناك لنحو عامين، بغية تحصيل مردود مالي عالٍ، ثم بعد ذلك العودة لاستئناف عمله القضائي في لبنان. لم يَنل الإذن لذلك. عندها قرر أن يُغامر ويسافر. عمل بصفة مستشار في دائرة القضاء في إمارة أبو ظبي «بموجب عقد خاص». كوّن شبكة علاقات مع أصحاب نفوذ. كلّ هذا كان بمثابة مقدّمات لأن يُصبح اليوم نائباً. للأمانة، هناك قضاة كان مجلس القضاء الأعلى ووزراء العدل يأذنون لهم بالعمل في الخارج، مِن أجل تحسين دخلهم المالي، على أن يعودوا للعمل في القضاء بعد انتهاء عقودهم. أحياناً يحصل هذا بموجب اتفاقيّة بين الدول بعناوين مختلفة، مثل «الاستيداع» أو «الإعارة» وغير ذلك. أبواب «الرزقة» كثيرة لِمَن يعرف أطرها... والأهم، لِمَن لديه «الواسطة».
عموماً، كلّ هذا أصبح مِن الماضي. عقيص الآن نائب «عن الأمّة» في لبنان. لديه تجربة جديرة بأن تقرأ، ليس لمجرّد التوقّف عند شخصه، بل لمعرفة بعض ما يحصل في «دهاليز» القضاء. كثيرون اليوم مِن القضاة يغبطون عقيص على ما وصل إليه. ربّما لو أصبح وزيراً للعدل، فسوف يبعث برسالة إلى نفسه، يطلب فيها مِن نفسه أن يوافق على إعادة نفسه إلى القضاء، ولو ليوم واحد فقط. سنوات وهو يُحاول، بلا جدوى. الآن أصبح مِن «طبقة أعلى». بالتأكيد، قبالة الوزارة والنيابة يُصبح القضاء «مش أكلة». الحديث هنا عن لبنان طبعاً. أيّاً يكن، علت الأصوات أخيراً، على نحو غير مسبوق، لمكافحة الفساد. واهم مَن يعتقد أنّ بإمكانه، ليس مكافحة الفساد، بل مجرّد إصلاح بسيط في منظومة الدولة، ما لم يُصلح القضاء. هي العدالة. أزمة هذه البلاد هي في نظام العدالة.