«لن أنتخب غازي كنعان نائباً لرئيس مجلس النواب». هذا هو السبب الذي دفع بالوزير نهاد المشنوق إلى مغادرة قاعة الهيئة العامة في مجلس النواب، عند بدء انتخاب نائب رئيس البرلمان. لم يشأ وزير الداخلية أن يكون شاهداً على هزيمة فريقه السياسي. ليس إيلي الفرزلي وحده عنوان هذه الهزيمة التي لحقت بما بقي من فريق جيفري فيلتمان ــــــ 14 آذار. معركة انتخاب نائب رئيس المجلس، وخسارة أنيس نصار، أظهرت الأوزان الحقيقية في البلاد: ثمانون نائباً، هم الأكثرية الجديدة، الشعبية والسياسية (74 نائباً من فريق 8 آذار والتيار الوطني الحر)، وستة نواب «وسطيين». انتهى ما كان يُسمى فريق 14 آذار، الذي زعم، أنه وحلفاءه، يمثلون أكثرية اللبنانيين منذ عام 2005. لكن المشنوق محق إلى حد بعيد، لا في توصيف انتخاب الفرزلي بأنه انتخاب لغازي كنعان، الحاكم السوري السابق للبنان. فالمجلس اليوم هو، في أكثر من ثلثيه، نسخة مطابقة عن مجالس كنعان. الاستثناء الوحيد هو التيار الوطني الحر، الذي بُني نظام ما بعد الطائف على أنقاض الهزيمة العسكرية لقائده في بعبدا يوم 13 تشرين 1990. حتى القوات والكتائب، كانا من ضمن التركيبة التي أراد كنعان تثبيت النظام الجديد بواسطتها. الخلاف بين الحزبين والقيادة السورية في ذلك الحين، كان على الحصص، لا على مبدأ المشاركة. وإذا استثني العونيون والقوات، فباقي تركيبة المجلس تعكس تماماً التوازنات التي أرساها الحكم السوري: تيار المستقبل، الجنبلاطيون، حركة أمل، حزب الله، ممثلو العائلات والشخصيات المستقلة، الرئيس ميقاتي وحلفاؤه...من سخرية القدر أن تكون نتائج النسبية شبه مطابقة لنتائج الانتخابات النيابية، والتشكيلات الوزارية، التي كان يرعاها غازي كنعان. الأمثلة كثيرة: أعادت النسبية البعريني (وليد) والمرعبي (طارق) في عكار، ميقاتي والجسر وكرامي وجان عبيد في طرابلس، جهاد الصمد وفتفت (سامي) في الضنية. يمكن أن يكرر والد الأخير، أحمد فتفت، أسطورة انه فاز رغماً عن إرادة السوريين حينذاك. لكن ذلك لا يلغي كونه جزءاً من المشهد الكنعانيّ. الأحباش عادوا، وأسامة سعد، وآل الخازن، وعبد الرحيم مراد. غالبية الذين أقصتهم مرحلة ما بعد 14 شباط 2005 حاضرون اليوم، بقوة أصوات ناخبيهم، وبقانون انتخابي هو الأفضل في تاريخ لبنان. ثمة «يد خفية» تمارس الانتقام، أو السخرية. ما حرص كنعان، ومن بعده رستم غزالي، على حفظه، عاد جديداً، طازجاً. كما لو أننا في سفر عبر الزمن، إلى يوم 13 شباط 2005، أو 14 تشرين 1990، لا فرق. لكن هذه المرة، بلا دماء، وبلا مؤامرات، وبلا تحضيرات لاغتيال، وبلا قصر جمهوري مدمّر. يصل مشهد الانتقام إلى ذروته. ميشال عون في بعبدا. ثمة ما أراد الحكم السوري محوه، ففشل. لكن الجنرال رجع، بتحالف مع سوريا وحلفائها. يبدو الأمر انتقاماً سورياً من الحكم السوري، أو، من أحد أجنحته. الحدث أقرب إلى السوريالية. ميشال عون في بعبدا. نبيه بري في عين التينة، إيلي الفرزلي نائب له، والحريري (سعد) في السرايا.
يتجاوز انتقام اليد الخفية كل الحدود، عندما تلتقي ممثلة «المجتمع المدني» الوحيدة في المجلس النيابي، بولا يعقوبيان، بأحد أشهر رجال النظام الأمني اللبناني ــــــ السوري المشترك، جميل السيد. يتصافحان، يتبادلان القبل، ويبتسمان. حتى يعقوبيان ليست غريبة عن مشهد الحكم قبل 14 شباط 2005. فوزها بمقعد نيابي أقرب ما يكون إلى خاتمة المسيرة «الطبيعية» لإعلاميّ من ذلك الزمن، يقف عند نقطة تقاطع الحاكمين، المحليين والإقليميين والدوليين.
مجلس النسبية انعقد أمس. فيه الكثير من ملامح لقاء «عين التينة» الشهير. هو شهادة، للتاريخ، على أن غازي كنعان «حيّ فينا». لم ينقص الصورة لتكتمل سوى ثلاثة: آل سكاف، وآل فتوش، و... فارس سعيد.