شكلت العقوبات الاميركية التي تبنّتها دول خليجية على مسؤولين في حزب الله محور أحاديث الوسط السياسي وتحليلاته، فتعددت القراءات في ظل المنحى الذي يعبّر عنه دائماً حزب الله بالتخفيف من وقع هذه القرارات وأهميتها، في مقابل القراءة المتشددة التي لا تزال تنظر الى مسار العقوبات الاميركية على إيران وعلى حزب الله بأنه تصاعدي وسيؤتي ثماره عاجلا أو آجلاً.لذا، يتوقف الذين يتبنّون هذه الرؤية عند حدثين: توقيت التطور الاخير المتعلق بفرض عقوبات، وما يجري من ترتيبات مصرفية في لبنان، مقارنة بما جرى في الساعات الاخيرة من تداعيات أوروبية لها صلة بالملف الإيراني النووي.
فمع انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي، تمسك الاتحاد الاوروبي أكثر فأكثر به، وظل يعمل على مفاوضات متوازية وحثيثة من أجل ضمان استمراره والتخفيف من وقع التخلي الاميركي عنه، لا سيما أن دولاً في الاتحاد بدأت تستثمر في إيران عبر شركاتها النفطية والصناعية والتجارية، خصوصاً في قطاع الطيران والسيارات، بعد سنوات من القطيعة والحصار المالي والاقتصادي عليها.
لكن سرعان ما تبيّن لهذه الدول، واستطراداً شركاتها، أن واشنطن ستعمّم عقوباتها وتفرض حصاراً موازياً على أي شركة أوروبية تريد الاستمرار في استثماراتها في إيران. لذا، لم تكن مفاجئة مسارعة هذه الشركات الى التفكير ملياً في الانسحاب حتى قبل انتهاء المهل التي حددتها واشنطن لها. وما بيان شركة توتال الفرنسية عن نيّتها الانسحاب من مشروع لتطوير حقل للغاز الطبيعي في إيران، وتلاها أمس بيان شركة نقل بحرية دنماركية، إلا بعض أوجه تجليات هذا الانشغال الاوروبي بتداعيات تعميم العقوبات الاميركية على الشركات المعنية والخسارات المالية المتوقعة من جرائها. وفي وقت تداعى فيه قادة أوروبا الى البحث في الموقف الاميركي، في شقّه الاقتصادي، في موازاة التمسك بالاتفاق النووي، لا تظهر واشنطن أنها في وارد التراجع عنه، ما يؤشر الى مواجهة أميركية أوروبية، لم تخفف وقعها الحفاوة التي رافقت زيارات رؤساء ومسوؤلين أوروبيين الى واشنطن للقاء الرئيس الاميركي دونالد ترامب قبل إعلانه تخلّيه عن الاتفاق مع إيران. كذلك لم يخفف التنسيق بين واشنطن وحلفائها الاوروبيين في النظرة الى تطورات الشرق الاوسط والحرب في سوريا، من شدة تشبّث إدارة ترامب بوجوهها الجديدة في مواجهة ايران.
قرار العقوبات لم يكن رداً على نتائج الانتخابات بقدر ما هو تتمة للمسار الأميركي ـــ الخليجي


من هنا جاء توقيت الاعلان الاميركي عن عقوبات ضد حزب الله، في مرحلة توتر إقليمي حاد، نتيجة نقل السفارة الاميركية الى القدس والمواجهات الدموية، ليزيد من تساؤلات الفريق اللبناني غير الموالي لإيران، عن تتمة هذه الخطوة. فمنذ بدء موجة الرحلات الخليجية الرسمية الى واشنطن، والكلام الاميركي لا يزال هو نفسه. لكن الامر لم يقابل لبنانياً إلا في إطار تخفيف وقعه، ما عدا أن حزب الله تحسّب جدياً له، فيما كان يستعد للانتخابات، التي جاءت وسط ارتفاع منسوب التوتر الاقليمي، فلم تتصدر واجهة الاهتمام الدولي والاميركي تحديداً. وقد يكون سبب ذلك أن النتائج لم تشكل مفاجأة لأي طرف، لا سعودياً ولا أميركياً. فخريطة التحالفات والكلام الذي قيل وتكرر أكثر من مرة عن توجّه حزب الله للدخول في إدارة الحكم فعلياً وزيادة عدد نوابه ونواب حلفائه للإمساك بقدرة التأثير في المجلس، لم يُقالا سراً بل علناً. ولم يكن أحد يتوقع أن يخسر حزب الله في الانتخابات، التي حرص الامين العام للحزب السيد حسن نصرالله على تكثيف إطلالاته لمنع أي خرق فيها. وكان واضحاً أن كل القوى المواكبة مدركة سلفاً لنتائج الانتخابات، حتى إن وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو عبّر بوضوح حين قال إن أسباب خسارة الرئيس سعد الحريري معروفة.
لذا، فإن قرار العقوبات لم يكن رداً على فوز الحزب بالمعنى الضيق، بقدر ما هو تتمة للمسار الاميركي ـــ الخليجي، عكسه أكثر من مرة وزير الخارجية السعودي عادل الجبير. فمن الطبيعي ألا يكون لحزب الله والمسؤولين فيه أي حسابات مالية يمكن أن تتأثر بالعقوبات، وغالباً ما قيل هذا الكلام وعلى لسان مسؤولي الحزب، في كل مرة تصدر عقوبات مماثلة. والاميركيون كما السعوديون يعرفون تماماً قدرة لبنان على التكيّف مع هذه العقوبات، ليس على صعيد الحزب والمصارف فحسب، فحتى قانون الانتخاب لحظ ذلك بوضوح في المادة 59 منه المتعلقة بحساب الحملات الانتخابية، لكن للتوقيت والمنحى الاميركي مفعول سياسي وليس عملانياً. فالاتجاه الخليجي والاميركي الى ترداد الكلام حول استقرار لبنان والحفاظ عليه، لا يمكن التوقف عنده بمعزل عن الاستعداد لتشكيل حكومة جديدة. وإذا كان خصوم الحزب بدأوا يتساءلون عن قدرة الرئيس سعد الحريري على التكيّف مع هذه العقوبات وشراكته مع الحزب في الحكومة، رغم أنه يتعايش مع الحزب في الحكومة الحالية، فإن تدحرج الاحداث والتصعيد الاميركي والضغط السعودي على الحريري تضاعف من حساسية موقفه حيال تشكيل الحكومة، لا سيما أن الكلام الرئاسي الرسمي الذي لا يستبعد حكومة أكثرية لا يمكن إلا أن يُفهم من جانب الاميركيين والخليجيين إلا حكومة مؤلفة من التيار الوطني الحر وحزب الله وحلفائهما، وهي التي سبق أن شكلها الرئيس نجيب ميقاتي بعد تطيير حكومة الحريري. لكن حتى الآن لا يبدو الحريري في اتجاه الموافقة على حكومة اللون الواحد التي ترفضها الرياض وواشنطن. فكيف يمكن أن يوازن بين الشروط السعودية والضغوط الاميركية على حزب الله ولبنان، والمطالب الداخلية التعجيزية، وحسابات العهد وحزب الله وحلفائهما؟ حتى أوروبا لم تجد بعد الصيغة الملائمة للتوفيق بين الشروط الاميركية وعدم خسارة الاستثمارات الاقتصادية في إيران. فهل سيجد الحريري منفذاً لائقاً للسير بين الألغام، وهو الذي لا يكاد يخرج من مأزق حتى يدخل في آخر؟