بدا مستغرباً استمرار رئيس حزب التيار الوطني الحر الوزير جبران باسيل في هجومه على القوات اللبنانية غداة انتهاء الانتخابات النيابية. فإذا كان مبرراً، بالمعنى الحزبي المحض، توجيه كمّ من الانتقادات الى القوات، كما الى الرئيس نبيه بري والوزير علي حسن خليل، لاستنهاض الناخبين في موسم الانتخابات، إلا أن انكفاء باسيل بعد صدور النتائج عن التعرض لبري، في مقابل استكماله حملته في كافة الاتجاهات ضد القوات، يطرح إشكاليات سياسية عدة.لا يمكن فصل التعرض لبري عن استهداف القوات، لأن الطرفين يشكلان حالة استفزاز دائمة لرئيس التيار الوطني الحر، لا سيما أن التنسيق غير المباشر والمباشر بينهما يثير حفيظته، لذا عمد الى حصر هجومه الانتخابي عليهما، متّهماً إياهما بالتواطؤ. من هنا بدا لافتاً تحييد باسيل لبري مع صدور النتائج، فيما استكمل حملته ضد القوات، إن في ما يتعلق بالارقام التي حققتها أو بالحصص التي تطالب بها في الحكومة الجديدة.
من الواضح أن حصول القوات على عدد مقاعد يساوي ضعف ما كان لديها سابقاً، شكل نقزة لباسيل وللقوى السياسية الأخرى. ليس تفصيلاً هذا الانتشار القواتي في دوائر انتخابية عدة، لكن الأهم من ذلك الحضور السياسي لرئيس الحزب الدكتور سمير جعجع، الذي فرض على الحياة السياسية إيقاعاً جديداً لا يمكن إلا أن يثير حساسيات مع خصومه السياسين. وإذا كان حزب الله والقوات طرحا نفسيهما كحزبين منظمين، بغض النظر عن اختلافاتهما السياسية الجوهرية، فإنهما أظهرا أن ماكيناتهما الحزبية منظمة كما أن هيكليتيهما متشابهة لجهة ضبط إيقاع الناخبين ورسم الاستراتيجية السياسية لكل منهما. لكن هذا الأمر نفسه هو الذي يثير هواجس سياسية لدى خصوم القوات الذين توجّسوا من هذا الأداء الذي أصبح فاعلاً في الشريحة الشبابية، ولا يزال يشكل ثقلاً في وجدان الجمهور المسيحي، ويسجل له أنه لم يستخدم أي لغة طائفية في معركته الانتخابية.
من هذه الثغرة يحاول باسيل أن ينفذ، أي إنه استفاد من نتائج الانتخابات، ليعيد صياغة خطاب سياسي مبني على تحييد بري، بعد موجة عارمة من استهدافه في لغة لم يسبق له استخدامها، فبدأ يقدم نفسه على أنه المحارب الاول للقوات اللبنانية، موجهاً انتقاداته الشديدة لها، في كل الاتجاهات، بدءاً من رئيس الحزب وصولاً الى القاعدة والناخبين، متناولاً الشعارات السياسية والأداء القواتي عند كل مناسبة.
يسجّل خصوم القوات لها أنها لم تستخدم أي لغة طائفية في معركتها الانتخابية


يبدو باسيل، في هذا الإطار، وكأنه يقدم أوراق اعتماد أيضاً لدى القوى السياسية التي تعادي القوات، سواء كان حزب الله أو تيار المستقبل الذي لا يمكن التعامل معه اليوم على أنه حليف للقوات اللبنانية. أدرك باسيل أن معركته لا يمكن أن تستمر مع بري الذي امتص الهجوم عليه، كما فعل الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله، بدعوته الفورية بعد فرز النتائج الى طيّ صفحة الخطابات الانتخابية. فلا الحزب في وارد أن يدعه طويلاً في هذا المسار، ولا بري الذي يعرف أين وكيف سيرد. وأدرك أيضاً أن هناك فواتير يجب أن يدفعها، بعد اللهجة العالية التي خاطب بها بري وفريقه. فأي دخول في نقاش حول الحكومة والمرحلة المقبلة سياسياً وسط التداعيات الاقليمية، والمحلية خصوصاً بعدما جرى في تيار المستقبل، يستدعي منه تدوير الزوايا وسحب التوتر مع رئيس حركة أمل. وهو ارتأى لذلك أهون الطرق، ليس عبر حواره مع حزب الله، وليس في الذهاب طوعاً الى عين التينة، بل عبر استهداف القوات، لأن هذا الهجوم قابل للبيع ولاستدراج العروض، فلا يقدم تنازلات لبري أو حتى لتيار المستقبل، وفي الوقت نفسه يعيد رسم استراتيجية جديدة تقوم على استهداف المنافس المسيحي الذي ازداد عدد خصومه مع ازدياد عدد نوابه. وهو بذلك يصيب عصفورين بحجر واحد؛ يعيد تزخيم حضور التيار مسيحياً، لأن القوات عادت لتكون منافساً قوياً له، ويسلط الضوء على مخاطر فورة القوات وخطورة هذا الصعود محلياً،وربطاً بحلفاء إقليميين، وعلى رأسهم السعودية.
إشكالية هذا السيناريو أنه يفتح الباب واسعاً أمام استعادة التوتر المسيحي الداخلي. فإذا كان التيار الوطني الحر كسب من ورقة التفاهم رئاسة الجمهورية وقانون الانتخاب وتخفيف التشنج في الشارع المسيحي، إلا أنه يجد نفسه، اليوم، متحرراً سياسياً من هذه الورقة وغير محتاج إليها. لكن ما سحبته ورقة التفاهم من توترات في الشارع الذي يوالي الطرفين، عاد الى الظهور في الانتخابات، عبر هجومات واستهدافات إعلامية وسياسية. وهذا يشكل خطوة ناقصة وتحدياً أمام التيار، لأن القوات لم تعمد في المقابل الى مبادلة التصعيد بتصعيد مضاد، بل ما يحصل هو العكس، لأنها تحاول، وقد بدا ذلك واضحاً من كلام جعجع أكثر من مرة، عدم الانجرار والإبقاء على مسافة نقاش سياسي محصور بتشكيل الحكومة، وعدم ترك الاستفزازات من جانب باسيل تأخذ مداها.
في المقابل، يفترض التوقف عند ما سيعكسه تصعيد باسيل لدى بري وحزب الله وتيار المستقبل، والأول معنيّ أكثر من غيره، لأن القوات لم تتخلّ عن علاقتها به. فهل سيجد كلام باسيل صداه لدى هذه القوى فترى فيه شداً للعصب ضد خصمهم المشترك، أم سيبقى محصوراً في إطاره التنافسي الضيق، فلا يحوّل القوات فزاعة يخيف بها الآخرين، ويبقى عليه حينها أن يعيد ترتيب أموره مع من تصادم معهم قبل الانتخابات؟