لا يعلم أحد لما وصلت تلك السيّدة إلى وزارة الخارجية في قصر بسترس في الأشرفية، فيما مشكلتها في مكانٍ آخر. المرأة المتُقدمة في العمر، ترفعُ صوتها طالبةً أن يُحلّ ملّفها لدى الضمان الاجتماعي. انشغل عددٌ من العاملين في «الخارجية» بقصتها، فيما الكل منشغل في الداخل بمواكبة اقتراع المغتربين في ستّ دول عربيّة (سلطنة عُمان، الإمارات، الكويت، السعودية، قطر، ومصر). أحد عناصر قوى الأمن، يحاول تقبيل السيدة على جبينها، وإقناعها بمرافقته للاتصال بالأشخاص المعنيين. انتهت «البلبلة»، وعاد الجميع إلى النقطة الأساس: انتخابات للمغتربين اللبنانيين، تجرى للمرّة الأولى منذ الاستقلال، وقد انطلقت أولى مراحلها يوم أمس. فخورون هم المسؤولون في «الخارجية» بهذا «الإنجاز». يظلّون يسألون عن رأي الموجودين، بالعمليّة، مُنتظرين (بطبيعة الحال) جواباً إيجابياً. ولا مانع في زمن الانتخابات النيابية، من «تذكير» الرأي العام، بأنّ ما حصل يصبّ في خانة «إنجازات العهد». وللتأكيد على أهمية هذا الحدث، أتت زيارة الرئيس ميشال عون، بعد ظهر أمس، إلى «الخارجية». ثمّ، لحِق به وزير الداخلية نهاد المشنوق.على الشاشة الكبيرة، في البهو العريض، نقلٌ مُباشر لـ32 قلم اقتراع موزعين على الدول العربيّة الستّ. انطلق التصويت، منذ السادسة صباحاً، في توقيت بيروت... ليُقفل آخر الصناديق عند الحادية عشرة مساءً (في مصر). افتُتح النهار، بحديثٍ لوزير الخارجية جبران باسيل... و «سيلفي» التقطها لنفسه أمام الشاشة. «رايح أعمل رياضة، إذا رجعت وكان بعدكم، منتروق سوا»، قال باسيل للحضور في قصر بسترس. ولكن قبل خروجه، الجولة ضرورية داخل «غرفة العمليات»، بقيادة مدير الشؤون الاقتصادية السفير بلال قبلان. هنا، يتمّ رصد المخالفات داخل أقلام الاقتراع، ومتابعة عدد المقترعين. طاولة الوسط، تقاسمها قبلان مع مستشارة رئيس الحكومة سعد الحريري لشؤون تطوير الإدارة، ومستشارة وزارة الداخلية، الدكتورة لينا عويدات، مُمثل عن وزارة الداخلية، مُمثل عن هيئة الإشراف على الانتخابات، ممثل عن الجمعية اللبنانية من أجل ديموقراطية الانتخابات (LADE)، وعددٌ من الديبلوماسيين. «زوّار» وزارة الخارجية مرّوا تباعاً على هذه الغرفة، كالمراقبين من الاتحاد الأوروبي ووفد من هيئة الإشراف. وقد أتى إلى بسترس، مُتفقداً، النائبان الجبيليان «المتنافسان» سيمون أبي رميا ووليد خوري، كلّ على حدة.
غرفة العمليات كانت بقيادة السفير بلال قبلان، حيث رُصدت المخالفات ونسب الاقتراع


مُتطوعون من طُلاب الحقوق في جامعة القدّيس يوسف، قُسّموا على طاولتين. مهمتهم رصد الكاميرات في مراكز الاقتراع، والاتصال بـ «الخارج» في حال حصول أي خطأ، كأن ينقطع البثّ، أو أعطالٌ في الإنترنت. إحدى المخالفات التي تمّ رصدها، تثبيت كاميرا مراقبة فوق العازل في الكويت، تمّت تغطيتها بشريط لاصق. من الأمور/ العراقيل التي واجهت فريق العمل، ورود رقمين لبطاقة هوية أحد الناخبين، أو وجود خطأ في أحد البيانات. لم يكن يُسمح للمغترب بالاقتراع، قبل الاتصال بغرفة العمليات والأخذ بتعليمات وموافقة لينا عويدات. توضح الأخيرة: «أننا هنا كسند من أجل الاستفسار في ما خصّ لوائح الشطب. وتوصيات الوزير المشنوق بأن يكون الحصول على الداتا المطلوبة مُتاحاً للجميع». وتقول إنّ فرز صناديق الاغتراب سيكون «مُعقداً، فبعض الأقلام تضم صناديق أكثر من دائرة، واحتمال وجود 29 لائحة».
يقول أحد الديبلوماسيين، «سنترك لمن يخلفنا كُتيباً عن كيفية إدارة انتخابات المغتربين. تعلّمنا كثيراً من هذه التجربة، ومن الطبيعي أن يكون هناك بعض الأخطاء، فنحن نُجرّب شيئاً للمرة الأولى». منذ ستة أشهر، وفريق العمل في قصر بسترس، يجهد من أجل إنهاء التجهيزات اللوجستية. الفريق كان بكامل جاهزيته، مواكبةً لاقتراع المغتربين في الدول العربية. خليّة نحلٍ في قصر بسترس، «خلّصنا 3 الفجر (أمس)، وعُدنا الخامسة صباحاً».
ليس من السهل، إقرار اقتراع المغتربين وإيجاد آلية لذلك، بعد سنوات من ممانعة قوى سياسية عدة لهذا «الحقّ». في هذا الشقّ، يُعتبر ما حصل «سابقة». ولكن، «بالغت» وزارة الخارجية والمغتربين في وصف العمليّة بالإنجاز الذي لا مثيل له في العالم. بالنتيجة، لبنان استلحق نفسه بأمر تشهده بقيّة بلدان العالم، حيث تُنظّم انتخابات للمغتربين.
في فترة بعد الظهر، لم تكن نسبة الاقتراع قد تخطّت الـ50 في المئة. عُدّ هذا الأمر «انتكاسة»، ودليلٌ على أنّ اللبنانيين في «الانتشار» لم يشعروا بأنّهم معنيون بالاستحقاق الانتخابي. السبب أنّه يُفترض بالـ12615 لبنانياً في الدول العربية الستّ، الذين اختاروا طوعيّاً تسجيل أسمائهم للاقتراع، أن يتوجهوا إلى البعثات اللبنانية بكثافة. وإلّا، لماذا بادروا إلى تسجيل الأسماء من الأساس؟ تحدّث البعض عن ردّ فعلٍ من الناخب المغترب على التحالفات، وأسماء المرشحين. فيما البعض الآخر، ذكر احتمال بُعد المسافة الجغرافية بين مسكنه ومركز الاقتراع. مع تقدّم ساعات المساء، بدأت ترتفع نسبة الاقتراع، لتُسجّل أكبر نسبة في الدوحة ومسقط. ولكن، حتى لو لامست النسبة النهائية 65.67% في المئة، لا يُعتبر التزاماً بالانتخابات. ولا يُمكن التحجّج بالسرعة التي رافقت التحضير للعملية أو أنها التجربة الأولى، فالمغتربون قرّروا، من خلال تسجيلهم، الاقتراع.
انتخابات المغتربين لم تخلُ من «عدم المساواة» بين الأحزاب والماكينات. بدا واضحاً، من خلال الشاشات، أنّ الأكثر تنظيماً وتعبيراً عن حضورهم هم مندوبو القوات اللبنانية. ماكينة مُنظمة، عملت على نقل الناخبين إلى البعثات. طبيعي، فالخليج «ملعب» حزب سمير جعجع. كان هناك حضورٌ أيضاً للائحة الجنبلاطية في الشوف وعاليه، وللتيار الوطني الحرّ. في حين أنّ حزب الله وحركة أمل، حُرما بسبب الموقف الخليجي منهما من متابعة الناخبين عبر وضع مندوبين لهما وتنظيم ماكينةٍ حزبية، خوفاً من ملاحقة الأجهزة الأمنية لمناصريهما. أضاء، سابقاً، الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله على هذه الإشكالية، من دون أن يتم إيجاد حلّ لها. «الإنجاز» لا يُستكمل من دون ضمان ممارسة الحقوق السياسية للناخبين في الاغتراب.



بين «الخارجية» والـLADE: كذبٌ... وتوضيح
خلال اليوم الانتخابي، حصلت مشادة بين الكادر في وزارة الخارجية، ومندوبة الجمعية اللبنانية من أجل ديموقراطية الانتخابات، التي وُضعت تحت ضغط الأسئلة المُستنكرة. فبعد أن انتشر خبرُ إضافة أسماء ناخبين على لوائح الشطب بخطّ اليد في قنصلية دبي، أعلن الأمين العام لـ «الخارجية» السفير هاني شميطلي أنّه «تأكدّنا من القنصل العام وهذه شكوى كاذبة وغير دقيقة وغير موجودة، وقد حصلت إضافات بخطّ اليد على لائحة أحد المندوبين». كما صدر بيانٌ عن الـLADE، يوضح أنّ مراقبة الجمعية في دبي وجود أسماء على القوائم الانتخابية غير مُدرجة على لوائح الشطب، فأُضيفت بخطّ اليد. قبل أن يتبينّ «أنّ الاسماء التي تمّت زيادتها قد أضيفت على لوائح المندوبين وليس لوائح الشطب».
المخالفات الأخرى التي رُصدت، هي تجديد جواز سفر في شكل فوري في أبو ظبي، تصوير اللائحة التي جرى التصويت لها في جدّة، و5 ناخبين في الكويت كانوا قد تسجلوا إلكترونياً ولم يجدوا أسماءهم على لوائح الشطب.


عون من الخارجية: إنّه إنجاز
قال الرئيس ميشال عون بعد تفقده انتخابات المغتربين إنّ «من يزور وزارة الخارجية، يمكنه أن يلاحظ التقنية المحترفة التي تُستعمل لمتابعة مجرى الانتخابات. إنه إنجاز، حتى على المستوى العلمي، أن نصل في لبنان إلى تنظيم الانتخابات التي تحصل في 40 دولة، بهذه التقنية». ووصفها بأنّها «من الأرقى في العالم»، مُهنئاً «واضعي الفكرة ومنفذيها على الأرض، وفي 40 دولة، وقريباً في العالم بأسره». أما الوزير نهاد المشنوق، فاعتبر أنّها «تجربة حديثة تتّسم بالشفافية ولم نتلق شكاوى أساسية».
من جهته، اعتبر باسيل أنّ «ما يحصل بمثابة سابقة في تاريخ لبنان، وهو أمر بالغ الأهمية بالمعنى السياسي». وأضاف أنّ الانتخابات «تدحض أي مقولة بعدم قُدرتنا على إجراء عمليّة انتخابية في لبنان، إذ إننا ربطنا العملية الانتخابية في 40 دولة في العالم بلبنان، بكلفة زهيدة. وبالتالي، يمكننا إصدار بطاقة ممغنطة».