باريس | القروض التي أسفر عنها مؤتمر «باريس 4» تختلف أرقامها بين ما أعلنه المنظمون ورددته الحكومة (11.06 مليار دولار)، وبين ما تعهد به المشاركون (8.2 مليارات دولار). هذا الفارق ليس مصدر الشك الوحيد في نتائج هذا المؤتمر، إذ تقول مصادر وزارية لبنانية إن لبنان كان بإمكانه الحصول على «9 مليارات دولار بموجب البرامج التمويليّة التي تنفّذها المؤسسات والصناديق الماليّة في لبنان، سواءٌ أعُقد المؤتمر أم لم يعقد»، ما يعني أن الحصيلة الفعلية لم تتجاوز مليارَي دولار من التعهدات الجديدة.تعدُّ قيمة قروض «سيدر» زهيدة، مقارنة بما قدّمه لبنان من التزامات مُكلفة للدول المانحة والمُقرضة، وانصياعه لشروط «صعبة»، بحسب وصف المشاركين. هذا هو التقييم الأولي لنتائج «باريس 4» الذي صدر في الصحافة الفرنسية صبيحة اليوم التالي لانعقاده.

إلى باريس 4 بالطائرات الخاصة

سخر سفير دولة أوروبية غربية أثناء لقائه رئيس مجلس النواب نبيه بري، تعليقاً على مؤتمر «باريس 4»، بالقول إن أعضاء وفود الدول الدائنة حضروا إلى العاصمة الفرنسية ببطاقات سفر من الدرجة الاقتصادية، بينما حضر معظم مثلّي البلد المدين (لبنان) بالطائرات الخاصّة!

ووُصف المؤتمر بأنه «مؤتمر سلخ لبنان»، بحسب مقال منشور في Mediapart، وهو موقع إلكتروني أنشأته مجموعة من الصحافيين الاقتصاديين، أبرزهم فرانسوا بونيه وجيرار ديبورت ولوران مودوي وإيدوي بلينل، وهم صحافيون سبقوا أن عملوا رؤساء تحرير لأبرز الصحف الفرنسية مثل Le monde وliberation وLa vie. يعرض هذا المقال نتائج المؤتمر، واصفاً إياه بـ«الحفرة اللبنانية» لأن لبنان يرزح تحت عبء «80 مليار دولار من الدين، وهو بلد ارتفعت ديونه من 10 مليارات إلى 80 مليار دولار دون تحقيق أي تقدّم، لكونه غير قادر على تأمين حياة كريمة لسكانه الذين لم يستفيدوا من هذه الديون». يتوقّع المقال أن «تتبخّر (الديون الجديدة) مرة أخرى، في بلد يذهب كلّ بضع سنوات إلى الاقتراض مجدداً من دون توفير الكهرباء لسكانه. بلد يموت فيه الفقراء على أبواب المستشفيات، ويخنقه الفساد، فيما المجتمع الدولي يمنحه المزيد من الدعم، وهو يدرك عدم قدرته على السداد، وكأنه يدفع به نحو الإفلاس كخطوة تمهيدية لتحويله وسكانه إلى عبيد له على مدى الحياة». ويتساءل المقال عن أهداف صندوق النقد والقادة الفرنسيين من دفع لبنان إلى الاقتراض، ويشبّههم بـ«تجار المخدّرات الذين يمنحون الجرعة الأولى من الهيرويين»، وإن كان المطلوب هو «جعله عبداً؟»، وإن كانت هذه هي «الحلّة الجديدة للاستعمار في القرن الـ21؟».

تعهّدت الحكومة بزيادة الضريبة على القيمة المضافة والضرائب على المحروقات


يقارب المقال ازدواجية السياسات المطبقة في الدول الفقيرة والدول الغنية، مشيراً إلى أن «الفرنسيين يتظاهرون للحفاظ على حصرية الدولة في تقديم الخدمات العامة، فيما تعمد كريستين لاغارد (المديرة العامّة لصندوق النقد الدولي) ومعها القادة الفرنسيون إلى خصخصة العالم. وهو ما يضع حياة مئات الملايين بخطر، بحيث يفشلون في استمرارية العيش في مكان خدماته الباهظة الثمن، لأن تقديم القطاعات الحيوية مثل الكهرباء والمستشفيات والتعليم والطرق إلى الشركات الخاصة، يحوّل حياة الفقراء إلى جهنمية».

التزامات لبنان
لا مغالاة في هذا التعبير الحادّ عن نتائج المؤتمر، فرئيس مجلس الوزراء سعد الحريري قدّم خطة حكومته لزيادة الاستثمار في البنى التحتية، من خلال تنفيذ برنامج يتضمّن أكثر من 280 مشروعاً استثمارياً بقيمة 22.9 مليار دولار. وأعلن أن الحكومة، في المقابل، تتعهد بإشراك القطاع الخاص وتحويل الخدمات العامة المربحة إلى المستثمرين المحليين والأجانب. كذلك أعلن خفض عجز الميزانية نسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 5% خلال السنوات الخمس المقبلة، وذلك عبر سلسلة إجراءات قاسية تتضمن إعادة هيكلة القطاع العام، وإلغاء دعم أسعار الكهرباء وتنفيذ وصفات صندوق النقد الدولي عبر «إنشاء فريق متابعة مؤلف من المؤسسات المالية والدول المانحة للتأكد من تنفيذ لبنان لالتزاماته».

للصورة المكبّرة أنقر هنا


بحسب وزير الخارجية الفرنسية، جان إيف لو دريان، تنسجم الشروط المفروضة «مع التشخيص الذي وضعه صندوق النقد الدولي والبنك الدولي». أمّا الأولوية لإشراك القطاع الخاص، فهي لقطاعات «الكهرباء والنقل والمياه ومعالجة النفايات»، وفق وزير الاقتصاد والمال الفرنسي، برونو لو مير. وهو ما يتطابق أيضاً مع كلام مصادر في الخارجية الفرنسية لـ«الأخبار» عن أن «الدول والمؤسسات الداعمة لن تنصاع للابتزازات التي يمارسها المسؤولون اللبنانيون لناحية تركيزهم على ما تحمّلوه من اللاجئين السوريين، وذلك لضمان حصولهم على تمويل من دون تنفيذ أيٍّ من التزاماتهم. فهناك إصرار على التزام لبنان تعهّداته وتنفيذ الشروط والإصلاحات الاقتصادية المُطالب بها، كشرط رئيسي لحصوله على القروض والمنح».

أي شروط؟
تتضمّن الشروط، حسبما عبّرت عنها المديرة التنفيذية للبنك الدولي، كريستينا جورجيافا، ونائب المدير العام لصندوق الدولي، تاو زانغ، ومصادر الخارجية الفرنسية، الآتي:
إصلاح قطاعات الكهرباء والمياه والنقل، عبر: رفع سعر تعرفة الكهرباء بما يكفل خفض الدين العام المرتبط بجزء كبير منه بديون الكهرباء، وتنفيذ مشاريع توليد الطاقة بالشراكة مع القطاع الخاص. إقرار قانون المياه الذي يفتح القطاع أمام المستثمرين الخاصين، وهو ما حصل خلال الأسبوع الماضي في مجلس الوزراء، بهدف تسهيل تنفيذ مشاريع كثيرة تتضمّنها الخطة الاستثمارية.
خفض الإنفاق بنسبة 5% ووقف التوظيف العام وإعادة النظر بنظام التقاعد لموظفي القطاع العام.
زيادة الإيرادات بالنسبة نفسها لخفض الإنفاق عبر تحسين التحصيل الضريبي وفرض إجراءات ضريبية جديدة (منها زيادة الضريبة على القيمة المضافة والضرائب على المحروقات)، وتعديل النظام الجمركي بما يؤمن سهولة أكبر لدخول وخروج السلع من لبنان، فضلاً عن الاعتماد على التحكيم الدولي، وتوقيع مراسيم الخصخصة والشراكات مع القطاع الخاص، وتحديث قانون المشتريات العامّة.
تحرير الاتصالات وتسهيل عمليات استثمار القطاع الخاص في هذا القطاع.
التزام التدابير التي وردت في تقييم صندوق النقد الدولي حول لبنان.
تقييم الاستثمار العام وتحديد الثغرات في الإدارة العامة قبل البدء بتطبيق الخطة الجديدة.


احتجاز الإعلاميين!
كلّ المناقشات والالتزامات والشروط في «باريس 4» عُرضت بعيداً عن الصحافة، فبعد إلقاء وزير الخارجية الفرنسية ورئيس الحكومة اللبنانية كلمتيهما، أُخرج الصحافيون من القاعة الرئيسيّة إلى غرفة معزولة قُطع بث وقائع المؤتمر عنها، وقام بحراستها رجال أمن وزارة الخارجية الفرنسية، الذين كُلفوا منع خروج الصحافيين من هذه الغرفة إلا لدخول الحمام. في المقابل، كان لافتاً إبقاء البث متاحاً في الغرفة التي خُصصت لممثلي القطاع الخاص المشاركين، وهو ما برّرته المنسقة الإعلاميّة التابعة لوزارة الخارجية الفرنسية بأنه «متفق عليه مسبقاً قبل دعوة الصحافيين، ومدرج على البرنامج الذي وزّع عليهم قبل ليلة من انعقاد المؤتمر».
كذلك كان لافتاً حصر مشاركة ما يسمى «المجتمع المدني» بـ«مؤسسة كارنيغي» وجمعية «كلنا إرادة» فقط. وواجهت الأخيرة محاولات كثيرة لمنعها من حضور المؤتمر من قبل مستشار رئيس الحكومة اللبنانية نديم المنلا، إلا أن الإصرار على الحضور والتنسيق المباشر مع السفارة والخارجية الفرنسيتين فرض دعوتها إلى المؤتمر.