ما عدا قلّة قليلة جداً من السياسيين والخبراء، ظلّت «الخفّة» هي الطاغية على معظم التعليقات وردود الأفعال، التي تناولت مؤتمر «باريس 4» ومساره ونتائجه وشروطه (المعلنة والمضمرة)، وبرنامج الحكومة الاستثماري الطويل الأجل (2018 ـــ 2025)، ورؤيتها للأزمة في لبنان ومصادرها وسبل التصدّي لها.وكما هو متوقع ومعهود، شاع خطاب احتفائي بـ«نجاح» لبنان في زيادة مديونيته العامّة في السنوات القليلة المقبلة الى مستويات قياسية جديدة، بذريعة الحاجة لتمويل مشاريع ملحّة في البنية التحتية (تكلّف أكثر من 17 مليار دولار). وترافق هذا الخطاب مع خطاب آخر، يقدّم نفسه على أنه «إصلاحي»، وهو لا يقلّ خطورة عن الأول، ويزعم أن الحصول على القروض الخارجية «الموعودة» مرهون بتقديم ضمانات خاصة للدائنين، تكرّس سموّ خدمة الدين على ما عداها من أولويات وحاجات وسياسات، ومرهون أيضاً بـ«إعادة هيكلة القطاع العام» وتوسيع نطاق «الخصخصة» (تحت اسم «الشراكة مع القطاع الخاص»)، عبر تقزيم الأصول العامّة (ثروة المجتمع) ونقل الجزء المهم منها (المدرّ للأرباح الاحتكارية والريعية) إلى الرساميل (الثروات) الخاصة المحلية والأجنبية، استكمالاً لنهج قديم ترسّخ بعد الحرب: منذ السطو على وسط بيروت، وصولاً إلى الهندسات المالية، ولا سيما منذ أن رُبط كل استثمار جديد في توفير الخدمات العامّة بتلزيمه للشركات الخاصة وتوزيع العقود كحصص بين النافذين.
بحسب البيان الصادر عن وزارة الخارجية الفرنسية في ختام أعمال هذا المؤتمر، فقد «تعهد المشاركون بدعم المرحلة الأولى من برنامج الاستثمار والإصلاح الخاص بلبنان من خلال قروض بقيمة 10.2 مليارات دولار، من ضمنها 9.9 مليارات دولار من القروض الميسرة. بالإضافة إلى منح بقيمة 860 مليون دولار، بما فيها المنح المخصصة لدعم فوائد القروض (أي إن هذه المنح ستخصص أيضاً للحصول على المزيد من الديون بقيمة تراوح ما بين 2 و3 مليارات دولار)».
إذا كان هذا الإعلان الرسمي صحيحاً (وهناك شكوك جدّية بصدقيته)، فهو يعني، ببساطة شديدة، أن مديونية الحكومة اللبنانية (من دون احتساب مديونية مصرف لبنان) ستتجاوز 110 مليارات دولار في غضون خمس سنوات، إذا استمر المنحى المخطط له. فالديون الخارجية الجديدة ستضاف إلى نحو 82 مليار دولار من الديون الحكومية المتراكمة حالياً (آذار 2018). كذلك ستضاف إلى نحو 4 مليارات دولار من الديون السنوية المتوقعة لتغطية العجز في الموازنة (طبعاً في حال التزام الحكومة تعهداتها في تثبيت قيمة العجز المطلقة وخفضه بنسبة 1% من الناتج المحلي سنوياً على مدى 5 سنوات).
يجري استغلال «باريس 4» في الانتخابات النيابية بوقاحة


المعلومات، التي ترددت في بيروت، تؤكّد أن جزءاً مهماً من القروض المعلنة في «باريس 4» ليست جديدة أو طارئة، بمعنى أنها مقرّة سابقاً لدى الجهات المقرضة، أو هي من ضمن برامجها السنوية الموجهة نحو دول عدّة، منها لبنان (البنك الدولي والاتحاد الأوروبي)، أو أنها كانت ملغاة أو مجمّدة أو معلّقة وجرى الحديث عن «إمكانية دراسة إعادة تفعيلها» (السعودية)، أو أنها جاءت على سبيل «المجاملة» (قطر مثلاً)... بمعنى، إن النتيجة المعلنة بزيادة المديونية العامة (بهذا القدر المقلق من القروض الخارجية) لم تكن تحتاج لتحقيقها إلى «مؤتمر للمانحين»، كما يحب البعض تسميته.
ويجدر التذكير بأن الحكومات في لبنان ليست عاجزة عن الاقتراض، وإذا كانت زيادة الاقتراض علامة «نجاح»، فإن السلطة التنفيذية اللبنانية استحقت منذ زمن طويل علامة عالية على هذا المقياس، فقد نجحت في زيادة مديونية لبنان بقيمة 54 مليار دولار عداً ونقداً منذ انعقاد «باريس 1» في عام 2001.
هذه الشكوك بنتائج «باريس 4» لا تغيّر في مسار الدين الصعودي، كذلك لا تغيّره الأحاديث عن قروض ميسرة (بفوائد أدنى وآجال أطول) وعقود الشراكة مع القطاع الخاص (أي خصخصة الخدمات العامة بذريعة تجهيز البنية التحتية باستثمارات خاصة)، وهو ما يطرح تساؤلات مشروعة عن الأهداف الحقيقية وراء انعقاد المؤتمر في هذا التوقيت وإعلان كل هذا «الدعم الدولي» للحكومة، ولو عبر تشجيعها على إغراق المجتمع اللبناني في المزيد من الديون؟
لا يمكن تجاهل واقعة انعقاد هذا المؤتمر، برعاية فرنسية، قبل شهر واحد فقط من الانتخابات النيابية! فعلى الرغم من أن البعض يرى في ذلك مساعدة خارجية للمحافظة على «الاستقرار» في لبنان عشية هذه الانتخابات وبعدها، إلا أنه ظهر أكثر بوصفه مساعدة مكشوفة لبعض القوى التي تطمح إلى المحافظة على نفوذها في الدولة وترسيخه، سواء من خلال السيطرة على أكبر عدد ممكن من الأصوات في البرلمان، والسيطرة على حصص أكبر من الثروة والدخل، وزيادة ارتهان الدولة للدائنين المحليين والخارجيين، وإبقاء المجتمع خاضعاً لقلق الدين وقصص الانهيار والإفلاس والعجز عن السداد.
يجري استغلال «باريس 4» في الانتخابات النيابية بوقاحة، ليس فقط على صعيد انتحال صفة «المنقذ» الذي يستحق منحه فرصة إنجاز عمله وتفادي «الكارثة»، بل أيضاً على صعيد الوعود الانتخابية بتخصيص هذه الديون الجديدة لتنفيذ مشاريع في المناطق حيث تدور المعارك ويسود الخوف من فقدان بعض الأصوات. يقع الناس عادة ضحايا هذا النوع من الاستغلال، وهم مستعدون كي يُلدغوا من الجحر مرتين وثلاثاً ومئة مرّة، في ظل قناعة (مصنوعة) بعدم وجود البديل.
في هذا الوقت، وفي ضوء ما اعلنته الحكومة وداعموها في الخارج، يقترب لبنان أكثر فأكثر من ظروف يصبح فيها كلياً تحت وصاية الدائنين، وتكون الدولة حينها قد تخلّت عن معظم أصولها المربحة لمصلحة المستثمرين ولم تعد تمتلك ما تقاوم به. في حين أن التفاوتات في توزيع الدخل ستزداد قساوة وإيلاماً، فالسيناريو كما هو، بما فيه من شروط اجتماعية مجحفة، لن يفعل شيئاً مغايراً عمّا حصل في ربع القرن الأخير، إذ بات 1% من الناس يستحوذون وحدهم على 40% من الثروة و25% من الدخل السنوي ويكدسون أكثر من 50% من الودائع، وهذه الفئة هي نفسها التي راكمت ثرواتها من إقراض الدولة وحصدت ثلث الإنفاق ونصف الإيرادات الضريبية وغير الضريبية، وهي التي ستحصد الأصول العامة المعروضة للخصخصة والشراكة.