وصلت أصداء «النكبة» إلى بيروت. هرول الفتى إلى السلاح، إلى جيش الإنقاذ بقيادة فوزي القاوقجي، دفاعاً عن فلسطين والأمّة. لكنّ عمر لم يُكمِل الرحلة إلى النهاية، إذ نجح والده، عبد القادر، في إقناعه بأن يلعب دوراً آخر. كان ذلك قبل سبعين عاماً. أخذ الفتى على عاتقه مهمّة استقبال اللاجئين الفلسطينيين، في بيروت، في منطقة الكرنتينا تحديداً، موفّراً لهم ما تيسّر مِن حاجات أوليّة. لم تكن تلك علاقة عمر غندور الأولى بأهل فلسطين، فقد سمِع قبل ذلك «حرتقة» أقدام الثوّار، يوم كان طفلاً في ثلاثينيات القرن الماضي، أثناء مرورهم على سطح المنزل في منطقة النويري. أخبره والده لاحقاً عن هويّة أولئك العابرين. لم يكن في النويري آنذاك سوى ثلاثة مبانٍ أساسيّة. أخيراً، أيقن عمر، كما كلّ العرب، أنّها «النكبة».شبّ الفتى ومعه الغضب. سنوات، ويصل نبأ «العدوان الثلاثي» إلى بيروت. مصر جمال عبد الناصر تحت النار. هذه المرّة لن يُضيّع الشاب الفرصة. إلى بور سعيد دُرْ. ذهب برفقة شقيق زوجته المناضل معين حمّود. هناك حمل السلاح. فرّغ بعض غضبه القديم. بعد نحو عامين، كان عمر ينقل السلاح سرّاً، مِن دمشق إلى بيروت، ضدّ «حلف بغداد». كان ذلك عام 1958.
غندور وبيليه ويظهر بينهما بهيج حمدان (الأخبار)()

بيروت عربيّة، ضدّ إسرائيل، ولا مكان للأحلاف الغربيّة فيها. هكذا يتحدّث الحاج عمر غندور اليوم. يستذكر تلك الأيّام الخوالي. ينبش ذاكرته، والنبش هنا يكاد يكون غير مجازي، فهذا «الحاج» قد ناهز عمره 88 عاماً. كتاب تاريخ يمشي على قدمين. على قدميه مشى ثلاث مرّات، إلى سوريا، لجلب السلاح. البداية مِن بيروت إلى المختارة بسيّارة، ثمّ مشياً إلى قرية لالا في البقاع الغربي، ثم وادي العشاير... فدمشق: «لن أنسى أولئك الذين كانوا يستقبلونني أنا ورفاقي في قرية لالا، بالترحيب والتكريم، وقد سألت مراراً عنهم لأشكرهم. قاتلنا ليكون لبنان بلداً عربيّاً». يتأثّر، تتغيّر ملامح وجهه، الآن وقد ابيضّ شعر رأسه عن آخره: «أنا حزين اليوم على الأمّة. أنظر أين أصبحنا».
وتأتي «النكسة». واحد مِن قلّة، عمر غندور، لم يأكله اليأس آنذاك. ما العمل؟ سيعرفه اللبنانيّون، في بداية سبعينيات القرن الماضي، كأحد أبرز الذين حاربوا اليأس الوطني، وسائر ملحقاته، لكن كيف؟ بالرياضة. صحيح أنّ نادي النجمة، الذي ظلّ يرأسه مدّة 35 عاماً، حقّق الكثير مِن الإنجازات الرياضيّة، إلا أنّ عمر، وإن كان يسعده الفوز، إلا أنّه كان أكثر سعادة بغايته الأولى: «أن أجد ملاذاً للشبّان في الرياضة، بعيداً عن المخدرات والقمار والتسكّع، بعيداً عن الموت العبثي». نجح في ذلك. يشهد له رفيق دربه النجماوي، في هذه تحديداً، بهيج حمدان. الأخير كان أمس، رغم ارتجاف جسده، لا يهدأ في حفل إعلان غندور ترشّحه للانتخابات النيابيّة. نظّم له زفّة على الطريقة النجماويّة. فبينما كان الحاج عمر يُلقي كلمته، جاءته إحداهن ووضعت على كتفه ذاك العلم النبيذي، علم النادي الذي أفنى عمره لأجله، فارتبك الحاج قليلاً. أنزل العلم بيده: «هذا النادي هو حياتي، لكن لطالما جهدت في إبعاده عن السياسة، لا أريد أن أفعلها الآن». لكن، مع ذلك، لم يستطع إلا أن يُقبّل تلك الراية. عندها انفجر بعض النجماويين، الذين حضروا تأييداً، مِن مختلف الاعمار: «نِجمة، نِجمة، نِجمة».
لو كانت الانتخابات تُجرى وفق لبنان دائرة واحدة، وبعيداً عن القيد الطائفي، لما كان لأحد أن يُشكّ في وصول عمر غندور إلى البرلمان. تكفيه محبّة أجيال مِن جمهور النادي. ذاك الجمهور الرياضي الأوسع في بلادنا. الجمهور الذي لطالما ناداه الحاج عمر، في خطاباته وبياناته، بعبارة «يا شعب النجمة العظيم». يُعلّق حمدان: «هذا صحيح، أساساً جمهور النجمة هو الطائفة 19 في لبنان». حمدان الذي لا يزال يحتفظ بصورته مع غندور، قبل نحو خمسين عاماً، يوم نجح الأخير في استقدام نجم البرازيل «بيليه» إلى لبنان. لعب في صفوف النادي مباراة وديّة على ملعب المدينة الرياضيّة. ما مِن نجماوي إلا ويحفظ لغندور ذاك العزّ. في عهده فاز النجمة على نادي «أرارات» (بطل الاتحاد السوفياتي السابق).

بيليه معانقاً غندور على أرض المدينة الرياضيّة في سبعينات القرن الماضي (الأخبار)()

قبل اغتيال رفيق الحريري بأعوام قليلة، وقع النادي في أزمة ماليّة، ومَن يومذاك في لبنان، في بيروت تحديداً، حاضر لشراء كلّ شيء سوى الحريري؟ سلّم غندور النادي، ابنه الذي ربّاه، إلى ابن الحريري (بهاء). الزعيم السياسي كان يطمع بضم جمهور النادي إلى جمهوره الخاص. حاول أن يُقلّد في ذلك الزعيم السابق، صائب سلام، تجاه النادي نفسه. لكن هذه المرّة سيتصدّع الجمهور، ويتزلزل النادي، مع تفاقم الظاهرة الطائفيّة والمذهبية في لبنان. بعد اغتيال الحريري ستنهار اللعبة مِن أساسها. هناك مَن لام غندور على خطوته، لكنّه يقول: «لم يكن أمامنا يومها مِن خيارات أخرى. هل أقبل أن تسقط النجمة إلى الدرجة الثانيّة! هذا حرام. والآن لا أريد أن أذكر آل الحريري إلا بالخير». هذا جزء مِن شخصيّة أيقونة نادي النجمة. أشياء كثيرة سُلِخ جلدها في بيروت في ظلّ الحريري، فالمال الذي عزل سليم الحص، مثلاً، هو أقدر على «خربطة» مسيرة أعرق النوادي الرياضيّة في لبنان. ليست صدفة أن يكون الحصّ مِن «أنزه السياسيين وأشرفهم» برأي غندور. إنّ الطيور على أشكالها تقع... لولا المال.
ليست صدفة أن يكون الحصّ مِن «أنزه السياسيين وأشرفهم»، برأي غندور


بعد العمل الرياضي أصبحنا نسمع باسم غندور كرئيس لـ«اللقاء الإسلامي الوحدوي». الرجل متيّم بفكرة «الوحدة». قبل سنوات، وأثناء تأديته صلاة الصبح في أحد مساجد بيروت، في شهر رمضان تحديداً، جاء بعض أهالي المنطقة وقالوا له: «يا حاج، أنت مُسلم سُنّي بيروتي، ولكن أنت واقف مع هوليك، ليش؟». سألهم: «مين هوليك؟». أجابوا: «هوليك، هوليك». غندور مؤيّد للمقاومة، لكلّ مَن يُقاوم الإسرائيلي، ومِن هذه الخلفيّة ذهب بعيداً في تأييد مقاومة حزب الله. هذا الحزب هو «هوليك» عند أولئك السائلين. عندها قال لهم: «اسمعوا، هوليك هوليك، يلي عم تقصدوهم، هم من التحقوا بي وليس أنا مَن التحق بهم، هم ولدوا بالأمس، أمّا أنا فكنت أحمل البندقية في وجه إسرائيل منذ سبعين عاماً. الآن عندما ولدوا وقاتلوا إسرائيل تُريدون منّي أن أقف ضدّهم! الله أكبر».
ظلّ مدّة لا يرتاح في نومه إلى أن حسم أمر ترشّحه للنيابة. لم يكن متحمّساً للفكرة. لكن «عندما حسمت المسألة ارتحت ونمت». يقول غندور: «أنا شايف الانقسام المذهبي والطائفي إلى أين سيوصلنا. آمل أن أساعد في ردم الهوّة. هذه بيروت. بيروت سيّدة العواصم وأمّ الجميع».
كثيرون مِن النجماويين، أقلّه في بيروت، يرون الاقتراع لغندور «كنوع مِن الوفاء». المُشجّع محمد شحرور يقول: «والله ما كنت بدي أنزل أنتخب، بس هلّق صار في حكي ثاني، صوتي إلك يا حاج عمر وتفضيلي كمان». نسأل غندور إن كان لديه كلمة للنجماويين. لا يُريد أن يدخل في هذه المسألة. لا يُريد للرياضة أن تتورط في أوحال السياسة اللبنانيّة. ولكن أما مِن كلمة مقتضبة؟ تلمع عيناه: «إنّي أحبّكم».



لائحة وحدة بيروت
أُعلِنَت لائحة «وحدة بيروت» عن دائرة بيروت الثانية، أمس، باحتفال في فندق «رامادا» (الروشة). وضمّت اللائحة ستّة مرشّحين، هم: عمر عبد القادر غندور وعدنان خضر طرابلسي ومحمد أمين أنور بعاصيري (عن المقاعد السُّنيّة)، وأمين محمد شرّي ومحمد مصطفى خواجة (عن المقعدين الشيعيين)، وإدغار جوزف طرابلسي (عن المقعد الإنجيلي).