سُلطة تطلب مِن سُلطة أخرى أن تتعامل معها كسُلطة. هذا حال القضاء اللبناني هذه الأيّام. فات مجلس القضاء الأعلى، في بياناته الأخيرة، أنّ السُّلطة لا تُطلَب. تكون أو لا تكون. ليست منحة. مَن يُعطِ يأمر، وهذا مثل فرنسي يحفظه كثير مِن قضاة لبنان، وبناءً عليه، فإنّ مَن شرّع يوماً وجود «صندوق تعاضد القضاة» بإمكانه، متى شاء، أن يُشرّع مُجدّداً لتعديل شكل هذا الصندوق، أو ربّما لإلغائه. توجّه القضاء إلى السُّلطتين الأخريين، التشريعيّة والتنفيذيّة، مرّة تلو أخرى، وإلى الجميع بطلب احترامه، بات أقرب إلى «التسوّل». هذا في الشكل، أمّا في المضمون، فإن كانت المطالب محقّة أم غير ذلك، فهذه مسألة أخرى. أحد القضاة، مِن بين زملائه الغاضبين هذه الأيّام، رأى أنّ «اعتكافات القضاة عن العمل، مرحليّاً، غير مجدية على المدى الطويل، فالمسألة يجب أن تكون في إقرار قانون يُثبّت وجود القضاء كسُلطة مُستقلة، وعندها يكون الشأن المالي للقضاة تحصيل حاصل». طبعاً، هذا لا يعني القفز فوق مبدأ تعاون السُّلطات. ما مِن سُلطة، في كلّ العالم، معلّقة في الهواء في ظلّ فصل السُّلطات.
يوم أمس اعتكف بعض القضاة، فيما رفض آخرون ذلك، وبالتالي شهد الجسم القضائي حالة مِن الغموض. دائماً ينقسمون. مشهد مألوف في بلاد لا تُقرّ تشكيلات قضاتها، عرفاً، إلا بموافقة السياسيين. كلّ سياسي لديه قضاة يُحسبون عليه. السياسيّون يختلفون، وبالتالي، القضاة سيختلفون. نتيجة حتميّة. خرج مجلس القضاء الأعلى، أمس، ببيان يوضح فيه موقفه: «إنّ المجلس، إذ يؤكد أنّ امتعاض القضاة يجد ما يبرره، يعلن إصراره على تحقيق جميع مطالب السُّلطة القضائيّة... وجد أنّ الاعتكاف حاضراً، في خضمّ السنة القضائيّة، وفي ضوء الظروف الراهنة، سوف يلحق الضرر بالمواطن ولن يؤدّي إلى أيّ نتيجة مرجوّة على مستوى تحقيق المطالب». هكذا، لا اعتكاف. ربّما تعلّم مجلس القضاء مِن تجربة العام الماضي، عندما تبنّى اعتكافاً، للأسباب عينها، قبل أنّ يُعلّق بعد الحصول على وعود مِن السياسيين المعنيين بتحقيق المطالب. آنذاك، في اعتكاف السنة الماضية، استمرت الحياة بشكل عادي. لسان حال السياسيين كان: ماذا بعد؟ ها قد، أيها القضاة، فعلتم ما بوسعكم، ثم ماذا؟ بدا الأمر، وفق أحد القضاة، وكأنّ لسان حال السياسيين تجاه القضاة: «ما حدا قابضكم جدّ».
ما الذي يُريده القضاة اليوم، ولِمَ هذه الجلبة؟
مجلس القضاء يكتشف أنّ الاعتكاف حاضراً، في خضم السنة القضائيّة «سوف يلحق الضرر بالمواطن»


يصعب الخروج بجواب واضح مِن بيانات مجلس القضاء الأعلى، التي تتضمن غالباً تعابير عامّة، مثل حقوق القضاة «المعنويّة والماديّة». مسألة، على بساطتها، كانت تحتاج إلى استقصاء. أولاً، هم لا يُريدون أن يساويهم المشرّعون، أي النواب، بسائر موظّفي الدولة، عبر توحيد صندوق التعاضد لسائر الموظّفين، ومعهم القضاة، ما يعني عدم استمرار «صندوق تعاضد القضاة» كصندوق خاص بالقضاة (الذي يُستفاد مِنه الطبابة والتعليم وغير ذلك). بدأ هذا الجدل قبل إقرار قانون سلسلة الرتب والرواتب العام الماضي. هناك مَن وعد القضاة بشيء ثم أخلف. المتحدّثون باسم السُّلطة القضائيّة يقولون اليوم: «نحن سُلطة، لا يُمكن مساواتنا بسائر الموظّفين»، بل وحتّى أساتذة الجامعة اللبنانيّة، الذين يردّون دوماً: «نحن الذين علّمنا هؤلاء القضاة، وبالتالي مَن يُعلّم أشخاص سُلطة فلا بدّ أن يُعامَل، أقلّه مالياً، مثل أشخاص السُّلطة».
أيضاً، كلّما حُكي عن تخصيص مالي للقضاة، يتحرّك الجيش، ليقول: أنا الحامي للبلاد، بكلّ ما فيها مِن سُلطات، وبالتالي لا نقبل أن تتدنّى مخصّصاتنا الماليّة. القضاة اليوم يرفضون أن يكون راتب أحدهم أقل مِن راتب المدير العام. بالمناسبة، قبل نحو سبع سنوات رُفعَت رواتب القضاة، بقدر كبير قياساً بما كانت عليه، ويومها كان مِن بين الأسباب الموجبة لذلك تشجيع القضاة على مزيد مِن العمل إضافة إلى تحصينهم. هل زاد عملهم؟ هل تحصّنوا؟ هل ظهر لدى التفتيش القضائي أيّ فارق؟ هذه مجرّد أسئلة. عموماً، أشار مجلس القضاء الأعلى، في بيانه الصادر أمس، إلى أن «التعويل، كلّ التعويل، هو على حكمة فخامة رئيس الجمهوريّة وإرادته المتجهة إلى تحصين القضاء وتعزيز استقلاليته، ومعه في ذلك دولة رئيس مجلس النواب ودولة رئيس مجلس الوزراء». إن كان التعويل على المذكورين، في المطلب المذكور، فمع مَن تكون المشكلة يا تُرى!
إلى ذلك، كان لافتاً هذه المرّة، عكس المرّات السابقة، غياب نقابة المحامين، في بيروت والشمال، عن التضامن مع القضاء في أزمته. أحد القضاة توقّف عند هذه المسألة. يقول: «على كلّ حال، لم يعد ينفع أن يتجاهل القضاء أنّ لديه أزمة ثقة مع الناس. لا بدّ مِن معالجة جذريّة، مشهودة مِن الجميع، لاستعادة الثقة. لم تعد تنفع البيانات التقليديّة».