هل هذا يا ترى مجرد صدفة أنه لزم انتظار إقرار المرسوم 43/2017 والتوقيع في 9 شباط الماضي على اتفاقيتي الاستكشاف والإنتاج في الرقعتين 4 و9، حتى ترتفع فجأة أصوات لم يسمعها أحد من قبل، لتطالب بالشفافية في استثمار الثروة النفطية، كما تطالب بمشاركة المجتمع المدني (في حين أنها تحذر من إنشاء ومشاركة شركة نفط وطنية!)، وبحوار علني حول استراتيجية بعيدة المدى تشمل كل مصادر الطاقة؟
في ما يتعلق بشكل خاص بمشروع قانون إنشاء شركة بترول وطنية، تتركز الاعتراضات والحجج على ضخامة عدد الموظفين والتكاليف المزعومة اللازمة لقيام مثل هذه الشركة، إضافة إلى ضرورة الانتظار، على الأقل، حتى اكتشاف البترول والغاز بكميات واعدة، كما وضرورة معرفة كيف يمكن مثل هذه الشركة أن تساهم فعلياً في الأنشطة البترولية.
وعلى أمل أن يقدم أصحاب هذه الاعتراضات دراسة كاملة وجدية مبنية على أرقام ووقائع واضحة، لا تتعدى حالياً الحجج المشار إليها لكونها ذرائع تستهدف إبقاء الدولة بعيداً عن المشاركة الفعلية وعن مراكز القرار في هذه الصناعة الناشئة، يمكن إيجاز الأدلة ـ المبررات لإنشاء الشركة في النقاط الآتية:
1 - مبرر وجود الشركة والتكاليف:
شركة نفط وطنية هي، تعريفاً وعرفاً، أداة لا بد منها لتنفيذ سياسة بترولية (وغازية) وطنية في شتى المراحل من الاستكشاف والإنتاج إلى الاستهلاك، مروراً بالنقل والتكرير والبتروكيمياء والبحث العلمي وتدريب الكوادر والمساهمة في إنماء سائر قطاعات الاقتصاد الوطني. هذا ما أدركته وقامت به منذ مطلع القرن الماضي كل بلدان العالم، الصناعية قبل غيرها، التي أنشأ وطور كل منها، ليس شركة وطنية واحدة، بل عدة شركات بترولية وغازية وطنية، وعشرات شركات الخدمات وغيرها المتفرعة عنها.
كل دول العالم أدركت وفعلت ذلك باستثاء لبنان! أما سبب هذا الوضع الشاذ، فهو بكل بساطة أن انتهاج سياسة نفط وطنية، أي سياسة تمليها مصلحة كل مواطن، يصطدم في بلدنا العزيز بمصالح خاصة وباعتبارات أقرب ما تكون إلى النهب وعقلية البازار، وأبعد ما تكون عن المصلحة العامة.

الأصوات المنادية تلفزيونياً بالشفافية هدفها عرقلة إنشاء شركة بترول وطنية والتعامي عن الانحرافات


أما في ما يتعلق بالتكاليف الباهظة المزعومة، فمن البديهيات أن التحكم بحجم هذه التكاليف وتوقيتها مرتبط بطبيعة وأولويات وإمكانات المهمات الموكلة إلى الشركة المعنية.
2 - المشاركة في التنقيب والإنتاج:
غنيٌّ عن القول أن إنشاء شركة بترول وطنية في لبنان لا يعني ضرورة مشاركتها الفورية في مرحلة التتقيب والإنتاج، نظراً لما يستلزمه ذلك من خبرة ورساميل. إلا أن الأمر الضروري الذي لا بد منه، فهو إدخال بند في كل اتفاقيات الاستكشاف والإنتاج، ينص صراحة على حق دخول الدولة، مباشرة أو عبر شركتها الوطنية، كشريك، وبنسبة معينة (يمكن تقديرها في الظروف الراهنة بـ 40% على الأقل)، في حال العثور على الهيدروكربونات بكميات تجارية، كما يشير إلى ذلك القانون البترولي 132/2010. خاصة أن إدخال هذا البند لا يكلف لبنان دولاراً واحداً، في حين أنه يكرس ويؤكد حقه في المشاركة في إطار نظام تقاسم الإنتاج المطبق حالياً في أكثر من 70 دولة في العالم، والذي طبقته النرويج منذ سبعينيات القرن الماضي عندما كانت شركتها الحكومية «ستاتويل» تفتقر إلى الخبرة والمال في هذا المجال. ومن أبرز مزايا هذا النظام، أن الشريك الوطني لا يسدد ما يترتب عليه من نفقات التنقيب والتطوير والإنتاج، إلا بعد تدفق إيرادات الإنتاج، وذلك من طريق حمل حصته (Carried interest) من قبل الشريك الأجنبي.
وحتى إذا سلمنا جدلاً ولأي سبب كان، بأنه لا بد من انتظار اكتشاف تجاري قبل إنشاء شركة وطنية، فليكن ذلك. في هذه الحالة الفرضية، لا يوجد ما يمنع الضرورة القصوى لصياغة بند، في صلب كل اتفاقية استكشاف وإنتاج مع شركة أجنبية، ينص على حق خيار للدولة للدخول كشريك بنسبة مئوية معينة، بعد تثبيت اكتشاف تجاري. إلا أن المشكلة الحقيقية تكمن عملياً في المادة 5 من المرسوم 43/2017 التي قطعت الطريق على هذا الحق بالقول: «لا مشاركة للدولة في دورة التراخيص الأولى». الأسوأ من ذلك أن المهندس فاروق القاسم، الذي يلعب منذ عشر سنوات دوراً أساسياً في شؤون البترول اللبنانية (كمستشار ومرشد أعلى)، يرى أن الاكتشافات اللازمة قبل إنشاء شركة وطنية يجب أن تكون كافية للإنتاج طوال ما لا يقل عن عشرين سنة. هذه البدعة الجديدة في صناعة البترول هي واحدة من البدع العجيبة الأخرى التي ذكرها المهندس المذكور في جريدة «الأخبار» بتاريخ 13 كانون الثاني الماضي، ما استدعى توجيه دعوة إليه، لمناقشتها في حوار تلفزيوني.
هكذا، ومما لا يكاد يصدق، سمح بعض موظفي وزارة الطاقة ومستشاريهم الأجانب لأنفسهم بتزوير القانون البترولي وبطرد الدولة من الأنشطة البترولية، وتجريدها المجاني (والإجرامي) من حقوق الملكية على كل ما يمكن اكتشافه من بترول وغاز، لنقل هذه الحقوق إلى مصالح خاصة. هذا ما أدى إليه تلقائياً التخلي عن نظام تقاسم الإنتاج الذي نص عليه القانون والعودة المقنعة إلى نظام الامتيازات القديمة التي عفا عليها الزمن منذ آخر عملية تأميم في سبعينيات القرن الماضي.
مثل هذا التزوير للقانون، ومثل هذه الاستباحة للحقوق وللمصالح الوطنية، يؤديان لا محالة، في أي بلد يحترم مواطنيه، إلى تسونامي سياسي وإلى ملاحقة من تجب ملاحقته!
3 - الاكتشاف:
الحجة القائلة بأن إنشاء شركة وطنية، ومن ثمة دخول الدولة شريكاً، يجب ألا يحصلا إلى بعد اكتشاف تجاري، هذه الحجة تتجنب توضيح المكان المفترض لهذا الاكتشاف: هل يجب أن يحصل في أي مكان من المنطقة الاقتصادية الخالصة؟ أم في رقعة معينة؟ أم على مقربة منها؟ مهما كان الجواب، فالواقع أن أكثر من عشرة اكتشافات تجارية جرت منذ 1999 مقابل شواطئ إسرائيل وغزة وقبرص ومصر، بما فيها اكتشافان على مرمى حجر من الحدود البحرية اللبنانية ــ الإسرائيلية، ومن شبه الأكيد أن أحدهما على الأقل يمتد تحت المياه اللبنانية.
أما إذا كان الاكتشاف التجاري الذي يطالب به البعض هو نفسه الذي قد تحققه الشركات التي يُتعاقَد معها للعمل في هذه الرقعة أو تلك، فهذا موضوع آخر. ففي هذه الحالة، لا يبقى للدولة أو أية جهة أخرى سوى إمكانية شراء حصة في إطار ما يسمى اتفاقية «Farm-in» في الشركة التي حققت الاكتشاف. وهذا يعني بتعبير آخر أن لبنان سيجد نفسه في حالة كهذا مضطراً إلى دفع أموال باهظة لاستعادة حق الملكية على موجودات تخلى عنها مجاناً جراء تخلي الدولة عن حقوق المشاركة، عبر المادة 5 من المرسوم 43/2017. وهكذا على سبيل المثال، وإذا اعتبرنا أن نسبة المشاركة التي جرى التخلي عنها 40%، وأن قيمة ما قد يُكتشَف في الرقعتين 4 و9 تبلغ 50 مليار دولار، تكون قيمة الحصة التي جرى التخلي عنها 20 مليار دولار. بدلاً من ذلك، ونتيجة لهذا التخلي المذهل، نص المرسوم المذكور على «حق» الدولة في تعيين مجرد «مراقب» أخرس في لجنة إدارة الشركات العاملة، مهمته رفع التقارير إلى وزير الطاقة، الذي يرفعها بدوره إلى مجلس الوزراء!
خلاصة ذلك، أن كل الحجج المذكورة أعلاه، كتلك التي تبناها أخيراً المعارضون لمشروع قانون إنشاء شركة وطنية، هي لفّ ودوران حول ذرائع واهية لتبرير شلّ دور الدولة وترك الحبل على غاربه لكل من يعتبر (على حق) أن إبعاد الدولة شرط أساسي لسلب الثروة النفطية. كذلك إن هذه الذرائع دليل على الفخ الذي أوقعنا فيه تزوير القانون والتضارب بين القانون 132/2010 الذي نص على مشاركة الدولة، من جهة، والمرسوم 43/2017 الذي منع هذه المشاركة من جهة ثانية. ومن الطبيعي أن يبقى هذا الفخ إلى حين إلغاء المرسوم الملغوم والاستعاضة عنه بمرسوم يتطابق والقانون البترولي، والدستور وما تستلزمه المصلحة الوطنية.
4 - نصف شفافية:
الضجيج الإعلامي ضد إنشاء شركة وطنية، والمناداة ــ تحت ستار الشفافية ــ بضرورة التجميد الفوري لأربعة مشاريع قوانين بترولية، لم ينطلقا إلا بعد إقرار مشروع مرسوم نموذج اتفاقيات الاستكشاف والإنتاج، وتوقيع الاتفاقيات الخاصة بالرقعتين 4 و 9. مشاريع قوانين لا بد منها لإنشاء شركة وطنية، وصندوق سيادي ومديرية تعنى بالأصول البترولية وقانون خاص باستثمار الموارد البترولية على اليابسة.
ومن الطريف أن الحملة العجيبة، تحت ستار الشفافية، على إقرار المشاريع المذكورة قد اتخذت أخيراً شكل مسرحية هزلية، وكأن التهريج في فيديو مسلٍّ لا تتجاوز مدته ثلاث دقائق وعشرين ثانية يكفي كبرهان على أن أربعة مشاريع بترولية، بما فيها قانون إنشاء شركة بترول وطنية، هي «أمور غير جيدة».... خاصة أن هذا الضجيج حول الشفاقية يأتي في أعقاب مبادرات اتُّخذت أخيراً تحت العنوان نفسه، منها استحداث وزارة خاصة لمكافحة الفساد، وقانون حق المواطنين في النفاذ إلى المعلومات (كذا)، ومشروع القانون الذي يحاول تسويقه النائب جوزيف معلوف بحجة تأمين الشفافية في الصناعة النفطية. ولا شك في أنه لا يخفى على أصحاب هذه المبادرات والقوانين الجديدة، كما لا يخفى على المواطن العادي، أن مصيرها لن يختلف عن مصير قانون مكافحة الإثراء غير المشروع الذي لم يتمكن من مكافحة الغبار الذي يتكدس عليه منذ 20 سنة.
وإن كان من البديهي أن الشفافية في صناعة البترول والغاز الناشئة هي ضرورة لا يمكن أن يختلف حولها اثنان، فمن اللافت أن الأصوات التي ارتفعت فجأة لتنادي بالشفافية تلتقي حول هدفين: الأول، عرقلة مشروع إنشاء شركة بترول وطنية، وإبقاء الدولة بعيداً عن الأنشطة البترولية وعن ممارسة دورها الحيوي في تأمين المصلحة العامة. أما الثاني، فهو تركيز الضوء على ضرورة الشفافية انطلاقاً من الأمر الواقع الذي كرسه تزوير القانون وتوقيع اتفاقيات الاستكشاف والإنتاج الأخيرة. ما يعني التعامي عن كل الانحرافات والتجاوزات السابقة، بما في ذلك شلّ دور الدولة وتشويه نظام الإنتاج الذي نصّ عليه القانون، وخسارة عشرات المليارات من الدولارات جراء انعدام إمكانية مراقبة عمليات وحسابات الشركات العاملة والقبول بشروط مالية وضريبية أسوأ حتى من تلك التي فرضتها الشركات صاحبة الامتيازات قبل نصف قرن.
هذا اسمه نصف شفافية، ونتيجته كنتيجة قول نصف الحقيقة. أما الشفافية الكاملة، فلن تأخذ معناها الصحيح قبل توضيح أسباب الانحرافات السابقة، ومحاسبة المسؤولين ومستشاريهم عمّا نجم عنها من استباحة للثروة الموعودة وسلب حقوق اللبنانيين وآمالهم.