هي المرّة الأولى التي يتّم فيها إحياء ذكرى 14 شباط، في ظل تفكّك تام لفريق الرابع عشر من آذار، وانقسام داخلي حادّ في قلب البيت الداخلي لتيار المستقبل، وعلى مسافة زمنية ليست بعيدة عن الأزمة السياسية، الأولى من نوعها، التي واجهها الرئيس سعد الحريري في الرياض في تشرين الثاني الماضي. مع ذلك، كان الحشد الجماهيري في البيال مشهداً غير متوقّع، يستحقّ الوقوف عنده.
فعلى عكس صورة الاحتفاليات التي سبقت، غصّت القاعتان الكبيرة والصغيرة والباحة الخارجية المحيطة بتجمّع شعبي مخالِف لكلّ التكنهات. وأهميته تكمُن في كونه حضوراً مستقبلياً صرف، غير مطعّم بمشاركة أحزاب وتيارات أخرى. كان ذلك أول رسالة شكلية تلقّفها الخصوم من داخل التيار وخارجه، بأن الافتراق السياسي عن الحريري يؤدي إلى خسارتهم هم لا الحريري نفسه، وبأن الكلام عن تعاطف حصده الرجل بعد 4 تشرين الثاني (تاريخ الاحتجاز في الرياض) لم يكُن مجرّد تحليل، إذ بطبيعة الحال نجح التيار في إعادة شدّ عصب جمهوره.
هي المرّة الأولى التي تخلو فيها قاعة البيال من أيّ أعلام حزبية غير علم تيار المُستقبل، الذي تقصّد أن يكون الثقل الأكبر للحشد في البيال من الشمال، لما يمثّله هذا الحضور من رسائل أراد الحريري إيصالها على الهواء مباشرة.

نعت الجمهور
حزب الله بـ«الإرهابي» فيما الحريري يجلس معه على طاولة مجلس الوزراء!


هي المرّة الأولى التي يغيب فيها رئيس القوات اللبنانية سمير جعجع، ورئيس حزب الكتائب سامي الجميّل أو والده أمين الجميّل شخصياً عن هذه الذكرى. وفيما بقي الوفد القواتي الذي يمثل جعجع جالساً في الصفوف الأمامية يستمِع إلى خطاب الحريري الذي لم يخلُ من سهام طالت حزبهم بشكل غير مباشر، غادر ممثل الكتائب الوزير السابق ألان حكيم بسبب «عدم احترام البروتوكول» كما قال، كما غادر أيضاً النائب نديم الجميّل، ومي شدياق وميشال معوض للسبب نفسه، ولعل الخطأ البروتوكولي كان متعمّداً ردّاً على كل ما تعرّض ويتعرّض له الحريري من انتقادات على لسان الجهات التي يمثلها هؤلاء. في المقابل، سجّل حضور السيدة نازك الحريري، ليس فقط عبر رسالة مسجّلة، بل عبر ممثلة عنها هي السيدة هدى طبارة زوجة الوزير السابق بهيج طبارة الذي غاب عن احتفال البيال.
وبدل أن يحيط الحريري نفسه بصقور تياره الأزرق، توسّط الوزير العوني السابق الياس بو صعب والوزير العوني الحالي سليم جريصاتي الذي حضر بصفته ممثّلاً لرئيس الجمهورية العماد ميشال عون، وهو من أبرز رموز محاولات نقض المحكمة الدولية الخاصة بلبنان.
على وقع هذه المفارقات، انطلق الاحتفال الذي استعاد الحاضرون فيه مسيرة رفيق الحريري وسعد الحريري السياسية من خلال شريط مسجّل شاهدوه عبر شاشة ثُبّتت في مسرح الاحتفال الذي اعتلته صور الشهداء التقليدية.
تفاعل الحريري مع التصفيق الحار الذي رافق دخوله القاعة وصعوده إلى المنبر، فردّ على الهتافات التي قاطعت كلمته أكثر من مرّة بدموع لم يستطِع إخفاءها. غير أن هذه الحماسة الزائدة لا تنفي تناقضات ميّزت خطابه الموجّه للداخل والخارج:
انتخابياً، حاول الحريري استعطاف الجمهور، بتصوير نفسه «الطفران» غير القادر على تمويل حملته الانتخابية، مُستجدياً أصوات الناس بتعبئتهم ضد من يقول إن أصواتهم تباع وتشترى». حدّد سقف برنامجه الانتخابي «بمقاطعة حزب الله» الذي نعته الحاضرون بالإرهابي، فيما الحريري يجلس معه على طاولة مجلس الوزراء. وتعاطى الحريري بطريقة غير واقعية حين أعلن أنه سيخوض الانتخابات بلوائح مستقبلية وبمرشحين عابرين للطوائف، كأنه يقول إنه «لن يذهب إلى تحالفات انتخابية مع أحد»، علماً بأن المفاوضات بين المستقبل والأحزاب والتيارات الأخرى لم تتوقف، ومن بينها القوات والتيار الوطني الحر.
لم يستخدم الحريري فزاعة حزب الله وإيران للهجوم على «خوارجه» كاللواء أشرف ريفي وخالد الضاهر أو خصومه في 14 آذار كالنائب السابق فارس سعيد من دون أن يسمّي أحداً من هؤلاء، بل اعتمد نبرة غير مستفزّة للحزب، لكنها تساعده على احتواء الأصوات الداخلية المعترضة على تموضعه السياسي الجديد.
ولوحظ أن الحريري أسرف في استخدام عبارات الاعتدال والعيش المشترك والعروبة، وقال مخاطباً خصومه «المراهنين على أن يتصيّدوا فتات الموائد في تيار المستقبل»: «ليعلم الجميع، أنني أنا سعد رفيق الحريري، أرفض رفضاً قاطعاً قيادة هذا الجمهور الوفي النبيل الى الهاوية، أو الى أي صراع أهلي. وليعلم الجميع، أيضاً، أنني لن أبيع الأشقاء العرب بضاعة سياسية لبنانية مغشوشة، ومواقف للاستهلاك في السوق الإعلامي والطائفي. نحن لسنا تجار مواقف وشعارات، نحن أمناء على دورنا تجاه أهلنا وتجاه أشقائنا، وسأخوض معكم التحدي في كل الاتجاهات، ولن أسلم بخروج لبنان عن محيطه العربي، ولا بدخول لبنان في محرقة الحروب العربية. قرار النأي بالنفس هو عنوان أساس من عناوين التحدي، وتثبيت لبنان في موقعه الطبيعي، دولة تقيم أفضل العلاقات مع الدول العربية وترفض أي إساءة لها. والقرار لم يتخذ ليكون حبراً على ورق. من يوقّع على قرار تتخذه الدولة، عليه احترام هذا القرار»، وحدد 11 ثابتة لن يتخلى عن أيّ منها تحت أي ظرف، أولاها اتفاق الطائف (خط أحمر) وما سمّاها «مقتضيات الوفاق الوطني».
أما للخارج، وتحديداً للسعودية، التي لم يسمّها الحريري ولو مرة واحدة في خطابه، فقد كان لافتاً للانتباه رفضه الوقوف في أي محور عربي. لم يقل الحريري إنه يحيّد نفسه عن الصراع السعودي ــ الإيراني، بل أكد أنه «يرفض دخول لبنان في محرقة الحروب العربية»!
وكان لافتاً أيضاً أن الحريري خصّ القدس بتحية، وبدعوة الحضور إلى الوقوف «دقيقة تضامن، تصفيقاً للقدس وصمود شعب فلسطين».