بعد تحرير الجنوب عام 2000، وقف الشهيد عماد مغنية مع الأمين العام لحركة «الجهاد الإسلامي» رمضان شلح قبالة مستوطنة «شلومي»، على الحدود اللبنانية ــ الفلسطينية. ردّد شلح أبياتاً من قصيدة «الأرض» للراحل محمود درويش: «سنطردهم من إناء الزهور وحبل الغسيل / سنطردهم عن حجارة هذا الطريق الطويل». نظر مغنية إلى شلح وضرب على صدره قائلاً: «وحياتك سنطردهم».
في العام نفسه، أيقن رئيس السلطة الفلسطينية ياسر عرفات أن التوصل إلى حل سلمي مع العدو الإسرائيلي مستحيل، وذلك بعد فشل مفاوضات «الوضع النهائي» في قمة «كامب ديفيد» في الولايات المتحدة الأميركية. وما أسهم في تعزيز اقتناع قيادة السلطة بإيجاد بديل من المفاوضات والعمل على إشعال انتفاضة شعبية تستدعي تدخلاً دولياً (كما كانت خطط عرفات بداية الانتفاضة)، هو انسحاب الجيش الإسرائيلي من جنوب لبنان. لذلك تواصل «أبو عمار» مع مختلف الفصائل تحضيراً للانتفاضة.

مع بدء الانتفاضة، وضع
مغنية إمكانيات حزب الله تحت تصرف الفلسطينيين

في السياق ذاته، «أثّر تحرير الجنوب في الختيار كثيراً»، بحسب الذين عايشوه في تلك الفترة. فقد رأى فيه «تغيّراً في عقلية صانع القرار الإسرائيلي. فلأول مرة ينسحب الجيش الإسرائيلي من أرض احتلها بدون مفاوضات». أضاف مقرّبون من عرفات أنه «أدرك أن إسرائيل تغيّرت»، لذلك أصبح أكثر اقتناعاً بخياره الجديد.

جهاد جبريل يُعِدّ للانتفاضة

في السنوات التي سبقت اندلاع الانتفاضة الثانية كان الشهيد جهاد جبريل، ابن مؤسس «الجبهة الشعبية القيادة العامة» أحمد جبريل، على اقتناع بأن عرفات أدرك أن «أوسلو» انتهت، فحاول إقناع والده بالانفتاح على «الختيار»، إلا أن «أبو جهاد» رفض ذلك، معتبراً أنه لا يمكن الوثوق بـ«أبو عمار».
أرسل «الختيار» مرافقه الشخصي، «فتحي»، للقاء أحمد جبريل في دمشق، ونقل له رسالة من عرفات مفادها أن «أوسلو انتهت ونريد سلاحاً».


لم يتلقّف جبريل الرسالة، لكن نجله جهاد حاول مجدداً إقناع والده، فبدأ «بتزيين» صورة «الختيار» أمامه. بالتزامن مع محاولات جهاد، أكّد «أبو عمار» عبر رسائله جديّته لمواجهة العدو، وأسهم انفتاح «حزب الله» عليه في تقبّل جبريل الأب للفكرة. وللتأكيد على ذلك، أرسل «الختيار» مفوض العلاقات الخارجية في «فتح» هاني الحسن للقاء جبريل في سوريا. خلال الجلسة نقل الحسن رسالة جديدة من «أبو عمار»، أكد فيها أنه يعتبر أن «أوسلو انتهت»، وطلب منه «فتح صفحة جديدة: نريد سلاحاً». وافق جبريل على التعاون مع عرفات، وكلّف «عرّاب المصالحة» جهاد بفتح مخازن «القيادة» العامة وتأمين نقل السلاح لـ«فتح» في الضفة.

الانتفاضة

بعد عودته إلى رام الله، تواصل عرفات مع «المقاومة الإسلامية» في لبنان، وطلب زيادة كمية السلاح المهرّب إلى الداخل الفلسطيني. نُقلت الأسلحة عبر الحدود المصرية، وانطلقت يخوت سياحية من قبرص واليونان باتجاه مصر وألقت بحمولاتها أمام الشواطئ الفلسطينية لدى مرورها قبالتها.
في أيلول من عام ٢٠٠٠، اقتحم رئيس المعارضة الإسرائيلية حينذاك أرييل شارون المسجد الأقصى. استفاد «الختيار» من هذه الخطوة لبدء التحركات الشعبية الأولى في غزة والقدس والضفة المحتلتين لتغيير الواقع السياسي. طلب عرفات إبقاء التحركات سلمية، لكنه أمر القطعات العسكرية بالدفاع عن مراكزها الأمنية وعدم السماح لجنود العدو بدخولها.

مع بدء الانتفاضة الثانية، طلب الشهيد عماد مغنية من قيادات المقاومة وضع كل إمكانيات حزب الله تحت تصرف الفلسطينيين. وفي أحد اجتماعاته مع المعنيين في المقاومة قال «الحاج رضوان» إنه «يجب ألا يشعر الشعب الفلسطيني أنه متروك وحده، العرب تركوا الشعب الفلسطيني، وعلينا الوقوف إلى جانبه بكل ما نملك».
تابع «رضوان» تفاصيل عمل الوحدات العسكرية والأمنية والإعلامية، فعقد لقاءات مع مسؤولي الفصائل الفلسطينية في لبنان وسوريا، مثل «الجهاد الإسلامي» و«حماس» و«الجبهة الشعبية ــ القيادة العامة»، لتنسيق العمل في الداخل الفلسطيني.
على الصعيد الإعلامي، جلب مغنية أرشيف أغاني الثورة الفلسطينية، وشارك في «منتجتها» وفي اختيار الصور التي نشرت في «الكليبات». يروي أحد الذين عملوا معه في تلك الفترة أنه كان يجلس معهم خلال «منتجة» الأناشيد، وكان يطلب منهم التركيز على رمزية الحجر الفلسطيني، وعلى إظهار التحدي لدى الشباب الفلسطيني، مثل لقطة الشهيد فارس عودة وهو يواجه دبابة الميركافاه.
على الصعيد العسكري، كانت الحدود اللبنانية ــ الفلسطينية مكاناً لالتقاء المقاومين على الطرفين. فكان عناصر من المقاومة الإسلامية يلتقون على الحدود مع مقاومين من الداخل المحتل، لإعطائهم أقراصاً تتضمّن تعليمات تفصيلية لتصنيع عبوات ناسفة، فضلاً عن تزويدهم بصواعق مصنّعة في لبنان. استمرت اللقاءات على الحدود خلال الأشهر الأولى للانتفاضة، إلى أن منع العدو الاقتراب من الحدود بسبب المظاهرات التي شهدتها المنطقة دعماً للانتفاضة الثانية. على الصعيد الأمني، أرسل رضوان أفراداً إلى الداخل الفلسطيني، عملوا مع بعض الخلايا الفتحاوية وتلك التابعة للجهاد وحماس. كذلك أسهمت الخلايا التي أسّستها «المقاومة الإسلامية» في فلسطين في تنفيذ عمليات تبنّتها بعض الفصائل الفلسطينية. في السياق ذاته، أرسل عرفات ضباطاً من رام الله ولبنان للعمل مباشرة مع مغنية.

عسكرة الانتفاضة

شهدت الانتفاضة الفلسطينية ثلاثة أحداث مفصلية؛ أوّلها حصار مخيم جنين، وحصار المقاطعة، واستشهاد عرفات. خلال حصار جنين، تواصل مغنية بشكل يومي مع عرفات، ورفعت تشكيلات المقاومة الاسلامية في جنوب لبنان تلك الفترة حالة الاستنفار ونفذت سلسلة عمليات في مزارع شبعا لتخفيف الضغط عن المقاومين في جنين. ويروي أحد الذين كانوا مع عرفات في المقاطعة أن «عماد كان يتواصل معنا يومياً للاطلاع على الوضع الميداني في جنين». عمليات المقاومة الاسلامية في جنوب لبنان لم تدفع العدو إلى الرد، وهو ما عبّر عنه رئيس أركان الجيش الاسرائيلي حينذاك شاؤول موفاز الذي قال إن «حزب الله يسعى لتنفيذ عملية دعم وتضامن مع الفلسطينيين، من أجل جر إسرائيل إلى ردّ يقود إلى تسخين الحدود الشمالية، ومن دون ريب يرغب حزب الله، بتشجيع من إيران وسوريا، في أن نرد بشكل يقود إلى فتح جبهة ثانية، في الوقت الذي نخوض فيه المعركة في الجبهة الفلسطينية». خلال معركة جنين، نفّذ المقاومون في لبنان سلسلة عمليات قنص استهدفت المستوطنين الإسرائيليين. أما خلال محاصرة عرفات، فنفّذت المقاومة الإسلامية سلسلة عمليات على الحدود اللبنانية مباشرة.

«صحافي كندي» من حزب الله

خلال الانتفاضة الثانية، دخل «صحافي كندي» الأراضي الفلسطينية لتغطية الأحداث الدائرة. بهذه الصفة، تنقل اللبناني فوزي أيوب في محافظات الضفة بحرية. تعرف على قيادات «كتائب شهداء الأقصى» (الذراع العسكرية لحركة فتح) وعمل على تدريب عناصرها.
في الخليل اعتقلت الشرطة الفلسطينية أيوب، فاتصل مغنية برسول عرفات في الأردن، وقال له: «في شب من قبلنا جاي لعندك اهتم بالموضوع». التقى الرسولان، وتسلّم مندوب عرفات ورقة كتب عليها اسم فوزي أيوب، ومكان اعتقاله، والصفة التي دخل بها إلى فلسطين. توجه الرسول إلى المقاطعة وقابل عرفات وأخبره عن اتصال مغنية.
لم يكن «أبو عمار» يعلم بوجود أيوب على الأراضي الفلسطينية، إذ أرسل الحاج رضوان خلال الانتفاضة مجموعات وأفراداً إلى الداخل الفلسطيني من دون معرفة «فتح»، للحفاظ على السرية ولعدم إحراج عرفات. بعد التأكد من اعتقال أيوب، طلب «الختيار» من مساعده الاتصال بالضابط المسؤول للإفراج عنه. فقال له «هناك ضغوط كندية علينا لأننا اعتقلنا صحافيين، فأطلق سراح الصحافيين الأجانب الموجودين عندك». لم يستجب الضابط، لأنه شكّ في أن جواز السفر الذي دخل به أيوب مزوّر. بعد أيام اتصل مساعد عرفات به وقال له: «لديك صحافي كندي معتقل، أطلق سراحه فوراً». تم الإفراج عن أيوب بعدما فتحت السلطة أبواب السجون، إثر محاصرة عرفات في المقاطعة. لكن، سرعان ما اعتقله الأمن الوقائي، بقيادة جبريل رجوب، ثم ما لبث أن أطلق سراحه بتدخل من عرفات أيضاً. بعد ذلك، دهمت قوات الاحتلال مكان وجود أيوب، واعتقلته. عاقب عرفات الضابط المسؤول عن اعتقاله، إذ كان من المخطّط أن يتوجه أيوب بعد إطلاق سراحه إلى مقر المقاطعة، والتوجه مع عرفات إلى القمة العربية في بيروت، إلا أن الخطة لم تكتمل بسبب اشتداد وتيرة المواجهات في الضفة الغربية المحتلة، ورفض عرفات ترك الأراضي المحتلة. (في عام ٢٠٠٤، أطلق العدو الإسرائيلي سراح أيوب في عملية تبادل أسرى مع حزب الله، واستشهد في سوريا في عام ٢٠١٤).

قاتلة عرفات

مع ارتفاع وتيرة العمليات العسكرية الإسرائيلية خلال الانتفاضة الثانية، قررت القيادة الفلسطينية إحضار سلاح نوعي إلى الداخل، فطلب عرفات من ضباط البحرية لديه التنسيق مع مغنية. في مصر التقى ضباط عرفات مع أفراد من «المقاومة الإسلامية» تحضيراً لشراء سفينة «كارين آي». في 28/9/2017، نشر المحلل العسكري في صحيفة «يديعوت أحرونوت»، أليكس فيشمان، أن اكتشاف مخطط إرسال السفينة حصل بعد مراقبة اتصالات ضباط من السلطة موجودين في مصر. وقالت ضابطة في استخبارات العدو لفيشمان: «طوال أشهر، سمعنا أحاديثهم عن البضائع التي نقلت من مكان إلى مكان. وفي أحد الأيام، حصلنا على المعلومة الذهبية، عندما قال أحد الرجال: اشترينا سفينة». وبحسب ما نشره الإعلام العبري، كان من المقرر أن ترمي السفينة حمولتها أمام الشواطئ المصرية، على أن تخرج قوارب الصيد الفلسطينية لسحبها.
في كانون الثاني من عام ٢٠٠٢، سيطرت القوات الإسرائيلية على السفينة. وكان سبب كشفها هو تهاون مسؤولين فتحاويين أمنياً، واستخدامهم الهواتف الخلوية في اتصالاتهم بشأن السفينة. اعتراض مغنية على طريقة عمل بعض رسل عرفات، وصل إلى مسامع الأخير، فغيّر كل الطاقم المحيط به بعد الكشف عن السفينة، لسببين: الضغوط الأميركية، والتهاون الأمني. لاحقاً، شكل «الختيار» فريق عمل جديد، وربطه بمغنية.

موت عرفات

مع اقتراب نهاية عام ٢٠٠٤، وخلال وداعه أحد الوفود الأجنبية المتضامنة معه، تقيّأ عرفات في رواق مبنى المقاطعة. لم يكن مرضاً عادياً.

حاول الشهيد جهاد
جبريل إقناع والده بأن
عرفات تغيّّر
قال لمساعده: «قولك وصلولي؟». أجاب مساعده بأنه قد يكون مرضاً طبيعياً. وصل الخبر إلى مغنية. شعر بأن العدو الإسرائيلي وصل إلى قائد «فتح». مع مرور الأيام تدهورت حالة «الختيار» الصحية. تابع مغنية حالة عرفات حتى وفاته في فرنسا. يقول مقرّبون من عماد إنه حزن كثيراً لوفاة «أبو عمار». لكن رغم رحيل «الختيار»، أراد مغنية الاستفادة من استمرار حالة التعاطف والزخم مع الانتفاضة. تواصل مع رئيس الدائرة السياسية في منظمة التحرير الفلسطينية فاروق القدومي، وطلب منه التوجه إلى إيران وإعلان استمرار الانتفاضة الثانية من هناك. وافق القدومي على ذلك، وتوجه إلى طهران حيث التقى أصحاب القرار فيها. لم يستطع «أبو اللطف»، رغم أنه من مؤسّسي «فتح»، تشكيل «حالة» قادرة على الاستمرار في الانتفاضة.
في ١٥ كانون الثاني ٢٠٠٥، تسلّم محمود عباس رئاسة السلطة الفلسطينية، فأوقف العمل العسكري والانتفاضة، كما عمل على تفكيك كل الخلايا التي تولّت قتال إسرائيل. أنهى عباس الانتفاضة، إلا أن مغنية أكمل عمله، حتى استشهاده... على طريق فلسطين.




كَسَرَنا جهاد

في أيار ٢٠٠٢، دوى صوت إنفجار كبير في بيروت. اغتالت الاستخبارات الإسرائيلية جهاد جبريل. لدى وصول الخبر إلى رام الله، علّق ياسر عرفات: «كَسَرَنا جهاد». بعد مدة، تواصل عرفات مع الحاج عماد مغنية لمعرفة سبب «الخرق الأمني» وإذا «السوريين باعوه»، بحسب ما نقله رسول «أبو عمار». أجاب مغنية أن الخرق سببه محيط جبريل، وأن المقاومة كانت قد حذرته سابقاً من بعض المحيطين به.







حماس والجهاد

تعرّف الشهيد عماد مغنية على «حركة المقاومة الإسلامية ــ حماس» و«الجهاد الإسلامي» في مطلع تسعينيات القرن الماضي. تلقّت الحركتان تدريبات في معسكرات تابعة لحزب الله، وانطلقت جلسات الحوار الفني بين الطرفين لتبادل الخبرات. في إحدى تلك الجلسات قال «الحاج رضوان»: «نحن لا نحدّد لكم كيف تخوضون حربكم. أنتم الأقدر على تحديد ذلك، لأن لكم ظروفكم ونحن لنا ظروفنا. لكن إذا كانت هناك ظروف مشتركة، فنحن ننقل تجربتنا لكم». الانتفاضة الثانية مثال على ذلك، إذ استعانت المقاومة في فلسطين بخبرات «حزب الله» في العديد من المجالات، كالعبوات الناسفة.