في نهاية ثمانينيات القرن الماضي، أظهرت القيادة الفلسطينية جنوحها للحل السلمي. تسبّب هذا الجو في ظهور خلافات داخل الصف الفلسطيني، ما أحدث توتراً في العلاقات بين ياسر عرفات ونائبه خليل الوزير، «أبو جهاد». فالأخير كان أحد محرّكي الانتفاضة الفلسطينية الاولى، ومن المخططين للعمليات التي نفذت في الداخل الفلسطيني. «أبو عمار» أراد استغلال هذه العمليات سياسياً، بينما كانت وجهة نظر «أبو جهاد» هي عدم استغلال الانتفاضة في الوقت الحالي (كانت لا تزال في بدايتها).
ولفرض وجهة نظره على الوزير و«القطاع الغربي» الذي كان مسؤولاً عن العمل داخل فلسطين، خفّض عرفات في الكثير من الأحيان من ميزانية «القطاع». في عام 1988، التقى عماد مغنية بياسر عرفات في تونس. وهناك اطّلع على توجه «الختيار» الجديد، وعلى المعوّقات التي واجهت عمل خليل الوزير في الداخل الفلسطيني. عاد مغنية إلى بيروت وطلب من صديقه علي ديب (خضر سلامة) السفر إلى تونس للقاء عرفات، في محاولة لوقف مسار التفاوض. سافر سلامة إلى تونس، وعرض على أبو عمار وقف المفاوضات، والتوجه إلى طهران، وإعلان استمرار الكفاح المسلح من هناك. أجاب «أبو عمار»، بحسب ما نقله سلامة لمقرّبين منه لاحقاً: «لو فعلتُ ذلك فستقتلني الدول العربية».

عمل سلامة مع مغنية جنباً إلى
جنب على استيعاب تداعيات «أوسلو» رغم الواقع الجديد الذي فرضه عرفات


كرر سلامة محاولاته، وفي المرة الأخيرة طلب عرفات من سلامة مرافقته لحضور «مؤتمر القمة العربية السادسة» في المغرب في حزيران من عام 1989. انضم سلامة إلى وفد «أبو عمار»، بعدما استخدم جواز سفر مزوّر، وحضر معه اجتماعاته مع رؤساء الدول العربية. في تلك اللقاءات أسمع «الختيار» كلّ رئيس دولة ما يريد سماعه، فكان يقول لكل واحد منهم نقيض ما قاله للآخر. شرح عرفات سياسته هذه لسلامة وقال له إنها «الوحيدة التي تبقيه على قيد الحياة، وإن سرّ بقائه هو اللعب على تناقضات الدول العربية». نقل سلامة لدى عودته إلى لبنان هذه الأجواء، وما عاشه في المغرب، وكيف مكث في فيلا فاخرة، وكيف شارك في المآدب الفاخرة التي أقامها الملك المغربي الحسن الثاني، وقال لمغنية «من المستحيل لمن يعيش حياة البذخ التي يعيشونها أن يفكر في تحرير فلسطين».
يروي مقرّبون من مغنية أنه أمّن تمويلاً من طهران لبعض عمليات «أبو جهاد»، وتواصل معه طالباً منه التوجه إلى إيران والاستمرار في قيادة العمل المقاوم من هناك. وبحسب ما يُنقل، فقد تردد «أبو جهاد»، قبل أن يتجاوب معهم لاحقاً، لكنه اغتيل على يد الاستخبارات الإسرائيلية في 16 نيسان 1988 في تونس، وذلك بعد تخطيطه لعملية «مفاعل ديمونا» التي نفذت قبل استشهاده بأسبوع. في بداية التسعينيات، أصبح الجميع مقتنعاً بأن عرفات قاب قوسين أو أدنى من توقيع اتفاق سلام مع العدو الإسرائيلي، لذلك حاول مغنية مرّة جديدة التواصل مع مسؤول «الأمن المركزي» في «فتح» صلاح خلف، «أبو إياد»، طالباً منه التوجه إلى إيران وإعلان استمرار «الكفاح المسلح» من هناك. وبحسب مقرّبين من سلامة، الذي نقل رسالة مغنية إلى خلف، فإن «أبو إياد» كان موافقاً وأبدى تجاوباً أكثر من «أبو جهاد»، لكنه اغتيل في تونس عام 1991. في بداية التسعينيات، وخلال زيارة أحد قياديي «فتح» السابقين، والمقرّب من «الحرس الثوري الإيراني»، لعرفات في تونس، التقى الرجل بلبنانيين مقرّبين من مغنية كانوا موجودين أيضاً للقاء «الختيار». حاول الرجل إقناع «أبو عمار» بتحسين علاقته مع طهران و«حزب الله» في لبنان. ردّ عرفات عليه بأن هذه الخطوة ستجعل العرب يقطعون الأموال عن «منظمة التحرير»، إلا انه أبدى استعداده لتحسين العلاقة مع حزب الله، وقال بلهجته المصرية: «قُلّهم عايز شخص واحد يتواصل معاي اسمه عماد مغنية، إنت متعرفوش لكن قُلّهم كده».


بقي التواصل مستمراً بين عماد وسلامة وأبو عمار، إلى أن جاء يوم 13 أيلول 1993. حينذاك، سار الرئيس الأميركي بيل كلينتون، ورئيس الحكومة الإسرائيلية إسحاق رابين، ورئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات، في حديقة البيت الأبيض، حيث وقعّ الأخير «إعلان المبادئ حول ترتيبات الحكم الذاتي الانتقالي»، أو ما عرف بـ«اتفاق أوسلو». اعترض مغنية على هذه الخطوة، إلا أنه لم يقطع علاقته بعرفات، بخلاف ما قام به حزب الله وإيران وفصائل تحالف القوى الفلسطينية. وبعد نفاد خياراته، رأى «رضوان» أنه يجب التعامل مع الواقع الجديد الذي فرضه «الختيار» على الجميع. بدأ البحث عن إيجابيات يمكن تحصيلها كنتيجة للاتفاقية. قال له أحد المقرّبين من عرفات إنه سيتمكن من إعادة آلاف المقاتلين مع أسلحتهم الخفيفة إلى الداخل الفلسطيني، وإن من الممكن الاستفادة منهم. مجدداً، رأى مغنية في هذا الواقع مجالاً لتحويل التهديد إلى فرصة. بدأ التواصل مع قيادات حركة «فتح» في تونس وفي الداخل الفلسطيني لوضع تصور للعمل معاً. كذلك طلب مغنية من الشهيد سلامة ترك «فتح»، والانضمام إلى حزب الله. ويقول مقرّبون من سلامة إنه أبلغ عرفات نيته ترك «فتح» والانضمام إلى حزب الله، وإن «أبو عمار» بارك هذه الخطوة معتبراً أن سلامة سيكون مفيداً أكثر في صفوف «المقاومة الإسلامية». في حزب الله، عمل سلامة مع مغنية جنباً إلى جنب على استيعاب تداعيات «أوسلو». وكما كانا يفعلان في الشياح في سبيعينيات القرن الماضي، عملا على «إطفاء» الحريق الذي تسبّبت فيه الاتفاقية. استفادا من الصيت الذي لهما ومن مكانة «حزب الله» كمقاومة لاستيعاب الانقسام الفلسطيني، وحاولا تقريب وجهات النظر بين مختلف الفصائل لمنع تحويل الخلاف السياسي إلى اشتباكات عسكرية بين الفصائل في المخيمات في لبنان أو في الداخل الفلسطيني، وبذلك تمحور عملهما على أن يكون «حزب الله» نقطة التقاء لكل الفصائل الفلسطينية.

إعادة العلاقة مع عرفات

مع بدء تنفيذ المرحلة الأولى من اتفاقية «أوسلو»، بدأت تطرح فكرة إدخال الكوادر الفتحاوية ــ اللبنانية إلى الداخل الفلسطيني وربطها بالمقاومة الإسلامية في لبنان، وتحديداً بعماد مغنية. فاجتمع الأخير وسلامة في لبنان مع صديقهما القديم قائد «أمن الإقليم» راجي النجمي، لوضع التصوّر النهائي للخطة. قال النجمي إن «من الضروري إنشاء هذه الخلايا للعمل معها في المستقبل». ولكن داخل حزب الله كان هناك من يرى في عرفات عميلاً يجب عدم العمل معه، بينما كانت وجهة نظر مغنية أن «عرفات شخص يناور إلى درجة كبيرة، لكن لا يمكن الشك في وطنيته». استمر السجال الحزبي طويلاً حول هذه النقطة، إلا أن مغنية قال لقيادات الحزب: «إذا أردتم العمل في الضفة فعليكم التواصل مع عرفات وفتح». انتصر خيار رفض التواصل مع «فتح»، لكن عماد لم يقطع علاقته بجماعة «الختيار». وفي عام 1996 اجتمعت قيادات من حزب الله في إيران، وقررت إنشاء «وحدة فلسطين»، التي كانت مهمتها العمل في الأراضي المحتلة. وأوكل مغنية إلى صديقه سلامة العمل في هذا الملف، وكانت مهمته التواصل مع الفصائل الفلسطينية، وخاصة مع «فتح».

الإعداد للانتفاضة الثانية

بدأ عرفات في عام 1998 بالإعداد لجلسة «المجلس الوطني الفلسطيني» التي كان سيحضرها الرئيس الأميركي آنذاك، بيل كلينتون. وقبل عقد الجلسة سمحت إسرائيل بدخول كافة أعضاء «منظمة التحرير الفلسطينية» إلى غزة، بهدف الحصول على إجماع فلسطيني على بند إلغاء العنف ضد إسرائيل.

هذه الخطوة سمحت بعودة النجمي وعدد من كوادر «فتح» الذين عملوا مع مغنية وسلامة إلى غزة، حيث بدأ النجمي، بموافقة من عرفات، بربط المجموعات الفتحاوية بالمقاومة في لبنان، خاصة المجموعات التي كانت مع استمرار «الكفاح المسلح»، والمجموعات الأخرى التي كانت تستعد للقتال بعد انتهاء المدة الزمنية لأوسلو، أي في عام 1999. وفي عام 1998 أيضاً، اتصل سلامة بأحد رُسل عرفات الذي كان في غزة وقال له «بدنا نروح نشرب قهوة محل ما بروح صاحبنا». نقل الرسول هذه الرسالة إلى «الختيار»، والتي كان مقصوداً فيها أن سلامة يريد الاجتماع به في المكان الذي يزوره مغنية بشكل دائم، أي إيران. وافق عرفات على توجه رسوله إلى إيران. في طهران، أخبر سلامة الرسول أن هناك قراراً في «حزب الله» بالانفتاح على «الختيار» وفتح مخازن سلاح المقاومة الإسلامية له، وسأله ما المطلوب من الحزب لتطوير العمل في الداخل الفلسطيني كي يوفروا مستلزماته. نقلت الرسالة وهدية أرسلها أبو حسن سلامة (سجادة صلاة وسبحة) إلى عرفات، الذي أبدى موافقته قائلاً: «اعملوا بصمت وهدوء، ولا أريد معرفة ما تقومون به».

بدأت عمليات نقل السلاح من لبنان إلى فلسطين عام 1998 وأرسِلت الأسلحة عبر سيارة عرفات
وطائرته الرئاسية
وطلب من بعض قيادات «فتح» القريبة منه الانتقال إلى تونس حيث من السهل عليهم التحرك والتواصل مع «الإخوة في لبنان» بعيداً عن آذان وأعين الاسرائيليين التي كانت تراقب غزة؛ فـ«أبو عمار»، وكعادته في المناورة، لم يكن يريد معرفة تفاصيل العمل هذا لكي يستطيع «التبرّؤ» منه في حال انكشافه. استفاد مغنية من موافقة «الختيار»، فبدأت منذ عام 1998 عمليات نقل السلاح من لبنان إلى الداخل الفلسطيني. أرسِلت الأسلحة الرشاشة بكميات صغيرة، عبر سيارة عرفات وطائرته الرئاسية، وبكمية أقل عبر الحدود الأردنية إلى الضفة الغربية. بين عامي 1998 و2000 ازدادت عمليات نقل السلاح إلى فلسطين، واستخدمت للمرة الأولى في تلك الفترة اليخوت والبواخر الصغيرة التي كانت ترمي السلاح قبالة شواطئ غزة، على أن يخرج الصيادون والغطاسون لسحبها. في تلك الفترة اعتمد عماد وعرفات على خبراء «البحرية» لدرس التيارات المائية، واكتشفوا وجود تيار مائي قبالة سيناء يصل إلى غزة، فكانت البراميل (كان يوضع فيها أسلحة ويترك جزء منها فارغاً كي تنزل دون مستوى الماء من دون أن تغرق) ترمى هناك ويحملها التيار إلى القطاع، فازدادت في تلك الفترة كمية السلاح ونوعيته (عبوات ناسفة وصواعق)، المنقول من لبنان وسوريا إلى فلسطين.




استشهاد خضر سلامة


يوم 17 آب 1999 دوى صوت انفجار في مدينة صيدا. المستهدف كان الشهيد علي ديب (كان اسمه الحركي في «فتح» خضر سلامة، واسمه في حزب الله أبو حسن سلامة). قبل اغتيال ديب، طلب الحاج عماد مغنية من صديقه تخفيف تنقلاته خارج الضاحية الجنوبية لبيروت. لم يلتزم سلامة بذلك، وبقي متهرباً من إجراءات الحماية الخاصة به التي وضعتها له المقاومة، فكان دائم التردد على مكتبه في منطقة عبرا، شرقي صيدا.
بعد انتشار خبر استهداف سلامة اتصل مغنية (الذي كان يعاني من عارض صحي شديد)، بأحد مرافقي «أبو حسن»، مستفسراً عن مكانه. أجابه الأخير بأن سلامة كان في مكتبه في عبرا، وأنه كان ينوي التوجه إلى إحدى نقاط المقاومة في الجنوب. سرعان ما تأكد خبر إستشهاد سلامة. توجه مغنية إلى منزل الشهيد الذي بدأت القيادات الحزبية تتوافد إليه في «المربع الأمني» في بئر العبد. إلتقى بزوجة سلامة في غرفة جانبية. لم تكن «أم حسن» تعرف ما جرى، وعندما رأت تعابير وجه مغنية الحزينة علمت بأن شيئاً ما حصل. سألته «شو في»؟ أخبرها بأن «الحاج أصيب»، ثم صمت للحظات، اغرورقت عيناه بالدمع وضرب الحائط بكف يده، وقال «الله يرحمك يا حاج». في تلك الليلة، أعيا المرض مغنية، فتوجه ابن سلامة للقاء رفيق والده وصديقه. في وقت لاحق، يرن الهاتف في منزل «أبو حسن سلامة» في الضاحية الجنوبية. المتصل كان ياسر عرفات الذي أراد تقديم واجب العزاء لعائلة سلامة. تجيب شقيقة مغنية على الهاتف، ظنّ عرفات أنها زوجة ديب فعزاها بالشهيد. في رام الله وبعد إعلان نبأ استشهاد «أبو حسن» أقام عرفات خيمة عزاء في مقر المقاطعة في رام الله لتقبل التعازي بالشهيد اللبناني الفلسطيني.