مَن أكثر إرثاً مِن نبيه برّي، مِن بين الأحياء، في صياغة لبنان الحديث سياسيّاً؟ كان شريكاً أساسيّاً في المخاض، مقاتلاً، وهو، يومذاك، الراعي الرسمي لطائفة «المحرومين»... فهل يكون نفسه بعدما قويت الشوكة وصار الزمن غير الزمن؟ بلاهة أن يُعتقد ذلك في السياسة. هناك مَن لامه مِن داخل البيت، بعد اتفاق الطائف، على عدم تحصيل حصّة أكبر للشيعة مِن الكعكة اللبنانيّة. كان لوماً بقياس التضحيات والدور الفاعل في الولادة الجديدة.
رئاسة مجلس النوّاب؟ أبله، مرّة أخرى، مَن يعتقد أن الحضور الشيعي القوي، اليوم، مردّه إلى ذاك الموقع في «الدولة». إنّها قوّة الأمر الواقع في اللحظة. لكنّ الواقع يتغيّر. عندها ما الضمانة؟ تُسمّى الرئاسة الثانيّة، عرفاً، لكن هل هي الثانية فعلاً؟ هذه لا تنطلي على أمثال برّي. الحكم في التنفيذ. السُلطة في التنفيذ. في التوقيع. في السُلطة التنفيذيّة. المسألة هناك، لدى طوائف أخرى، في بلد أمراء الطوائف. ربّما تساهل الرجل، في مرحلة معيّنة، مِن أجل تمرير ما كان يجب أن يمرّ داخليّاً وإقليميّاً ودوليّاً. كان لا بدّ للحرب الأهليّة أن تتوقّف. ربّما كان الوجود السوري ضمانة، وهو، إلى حدّ ما، كان كذلك. الآن تغيّرت الحسابات. الآن، تحديداً، مع رئيس جمهوريّة جديد، قوي، ولبرّي كلّ التوجّس مِنه نتيجة الخلاف القديم على الطائف. مسألة توقيع وزير الماليّة، على المراسيم، أبعد مِن مجرّد توقيع على مرسوم أقدميّة دورة ضبّاط عابرة. وزارة الماليّة للشيعة، هذا ما يُريد برّي إحياءه، بل وتثبيته إلى الأبد... أو إلى أن يكون هناك نظام جديد. هذا ما جرى الاتفاق عليه في مداولات الطائف. لا بدّ للمراسيم الدسمة أن تذيّل بتوقيع الوزير الشيعي، إلى جانب رئيس الحكومة السُنّي ورئيس الجمهوريّة الماروني. أشهدَ بري على ذلك رئيس مجلس النوّاب السابق، حسين الحسيني، لِمَن يُريد التثبّت. الأخير يمتلك محاضر مداولات الطائف. لم يولد هذا المطلب اليوم، فبرّي، قبل أكثر مِن عام نجده يقول: «في اتفاق الطائف، موضوع وزارة الماليّة محسوم، أي إنّها مِن حصّة الطائفة الشيعيّة على قاعدة أنّ توقيع وزير الماليّة على المراسيم هو التوقيع الشيعي الوحيد في السلطة التنفيذيّة». هناك مَن تزعجه مسألة تطويب وزارات لطوائف معيّنة، وهذا طبيعي ومنطقي، وبرّي نفسه تزعجه أيضاً، لكنّنا نجده، قبل نحو سبع سنوات، يقول: «لا أريد أيّ حصّة إذا اقتنع معي الجميع بضرورة إسقاط هذه المحاصصة الطائفيّة، ولكن، في حال العكس، فأنا أوّل مَن يريد حصّته، وعا السكين يا بطيخ». هذا مبدأ لطالما كرّره الرجل، مِن أيّام الطائف وما بعد، إلى أن اشتُهِر به على نحو خاص. في الواقع، هذا مبدأ عند الآخرين أيضاً، لكن يُسجّل لبرّي أنّه جاهر به قديماً. هو واضح ضمن هذه اللعبة. يُقال إنّها لعبة قذرة، لعبة الطوائف، هذا مفهوم، ولكن أقلّه فلتكن الأمور واضحة. هذا هو نظامنا اللبناني.
قبل نحو عشر سنوات، كان رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، الشيخ عبد الأمير قبلان، واضحاً في طرحه حيال هذه المسألة: «أطالب بأن تكون وزارة الماليّة مِن حصّة المسلمين الشيعة، كما جرى التوافق في اتفاق الطائف، فلا يجوز تغييب التوقيع الشيعي عن القرار الحكومي. وإذا لم تُعطَ هذه الوزارة للشيعة، فإنّنا نُطالب باستحداث موقع نائب لرئيس الجمهوريّة يكون مِن حصّة الشيعة كي يُشارك في القرارات». هذه هي باختصار. المسألة قديمة. في مداولات الطائف طرح برّي ذلك أيضاً. لكثرة المحاذير في «الخصوصيّة» اللبنانيّة، مذ كان لبنان، كثر التكاذب السياسي. أصبح سِمة. لا تُقال الأمور «الحسّاسة» إلا مواربة. بالمناسبة، ربّما مِن مصلحة كارهي النظام الطائفي أن تُقال الأمور بوضوح، بعيداً عن الدجل الأخوي ولغة الطوائف الكريمة وما شاكل، التي أطالت وتطيل مِن عمر هذا النظام. لا بأس باللغة الحادة أيضاً، ليظهر، بالتالي، هذا النظام على حقيقته. هذا نظامنا، هذا نحن.