شأن ما بدأت السنة الحالية باشتباك دستوري لم يخلُ من دوافع سياسية، تختتم آخر ايامها باشتباك مماثل. في شباط الفائت امتنع رئيس الجمهورية ميشال عون عن توقيع مرسوم دعوة الهيئات الناخبة بعدما وقعه رئيس الحكومة سعد الحريري ووزير الداخلية نهاد المشنوق. لم يكن سطح المشكلة يختلف عن باطنها. افصح سطحها عن حق رئيس الجمهورية في استخدام صلاحيته في عدم توقيع مرسوم عادي لا يمر في مجلس الوزراء ولا تقيّده المهلة المنصوص عليها في المادة 56 بالتوقيع كي يصبح نافذاً على غرار قرارات مجلس الوزراء.

تالياً من دون توقيعه لا مرسوم يصدر. اما باطن المشكلة فهو ان عون لم يكن يريد الذهاب الى انتخابات نيابية عامة موعدها في ايار 2017 في ظل القانون النافذ منذ عام 2008.
كان ذلك الاجراء ــــ وبالكاد انقضت ثلاثة اشهر على بدء العهد ــــ اول الكلام ان رئيس الجمهورية يستخدم صلاحية لم يكن في وسع اي من اسلافه التعويل عليها في مقاربة ملف بالغ الاهمية كقانون الانتخاب. عنى هذا الاجراء ان لا انتخابات نيابية بلا قانون جديد، ونُظر في المقابل الى تصرّف رئيس الجمهورية على انه يدفع الى الفراغ. اما وجهة النظر المعاكسة التي دافع عنها الرئيس والمحيطون به، فهي ان احداً لا يسعه بعد اليوم تجاوز موقعه ولا اهمال صلاحياته، بما فيها تلك النائمة.

الخلاف على المادة
54 ينضم الى النزاعات على تطبيق الدستور


في الشهر الاخير من السنة اندلع اشتباك مماثل، دستوري ببعد سياسي، ولم يكن الثاني على مرّ الشهور المنصرمة. وقّع رئيس الجمهورية مرسوماً عادياً ايضاً لا يحتاج الى مجلس الوزراء، شأن مرسوم شباط، يتعلق بمنح ضباط من دورة عام 1994 اقدمية سنة. وقّعه معه رئيس الحكومة ووزير الدفاع رياض الصراف من غير اقترانه بتوقيع وزير المال علي حسن خليل، ولا احالته عليه بذريعة ان المرسوم لا يرتب اعباء مالية. رغم توقيع الرئيس عليه لم يشق المرسوم طريقه الى النشر بعدما طلب الحريري التريث. اعترض رئيس مجلس النواب نبيه برّي ورفض المرسوم، واعتبره مخالفة قانونية ودستورية في آن، شكلاً ومضموناً. الا ان رئيس الجمهورية عدّه نافذاً دونما حاجة الى نشره.
اذذاك اندلع سجال دستوري حيال وجود صنف ثالث من المراسيم لم تلحظه احكام الدستور: اولها هي المراسيم التي يوقعها رئيس الجمهورية منفرداً، ثانيها المراسيم التي يوقعها رئيسا الجمهورية والحكومة معاً، ثالثها المراسيم التي يشترك في التوقيع عليها ــــ الى الرئيسين ــــ الوزراء المختصون او الوزير المختص. تحدث الدستور ايضاً عن طرازين من المراسيم: عادية لا تمر في مجلس الوزراء تحدثت عنها المادة 54، وتلك التي يقرها المجلس وتناولتها المادة 56. وهي المرة الاولى توضع المادة 54 على مشرحة اجتهادات وخلافات.
انطوى المرسوم ايضاً على بعد سياسي هو ما اعترف به عون وبرّي تباعاً بأن وراءه «صراعاً سياسياً»، من غير ان يفصحا عن باطن هذا الاشتباك، خصوصاً ان الرجلين مرّا في الاشهر القليلة المنصرمة في هدنة واقعية، مكّنت الحكومة من اتخاذ اجراءات اساسية بمثابة انجازات كان رئيسا الجمهورية والمجلس تحديداً، في مجلسي الوزراء والنواب، عرّابيها كمراسيم النفط وقوانينه وسلسلة الرتب والرواتب والموازنة والتعيينات، وكلها لحظت وزير المال مفاوضاً رئيسياً فيها. حينذاك كان عون وبرّي اجتازا ازمة مقاربتهما المتناقضة لقانون الانتخاب والكمّ الهائل من التباعد والخلافات التي رافقت مراحله.
حقبة الهدنة تلك ارتبطت بملفات شائكة اختلفا عليها منذ ما قبل انتخاب عون رئيساً للجمهورية، ما عنى ان حاجة كل منهما الى التوافق مع الآخر اتاح امرار الملفات تلك. بذلك نُظِر الى شهر العسل القصير في الايام القليلة من ازمة الحريري، ما بين الاستقالة من الرياض والعودة عنها في بيروت، على انها محطة استثنائية عابرة بين الرئيسين.
ما بين اشتباكي شباط وكانون الاول، كان وقع آخران لا يقلان اهمية في بعديهما الدستوري والسياسي، وسجّلا سابقة لجوء رئيس الجمهورية اليهما، الا انهما عبّرا عن اجراءين لم يستسغ رئيس المجلس تقبّلهما:
اولهما، استخدام رئيس الجمهورية صلاحيته بموجب المادة 59 من الدستور بتجميد انعقاد مجلس النواب شهراً، ما بين منتصف نيسان ومنتصف ايار، للحؤول دون التئامه وتالياً منع تمديد ولاية البرلمان في هذا الشهر. كمن اللجوء الى هذه المادة، للمرة الاولى يستخدمها رئيس لبناني منذ وضع الدستور، في انها لا تكتفي بتعطل اجتماع المجلس، بل دفعه الى خيارات معاكسة. كان مقدّراً في الغداة عقد جلسة لمناقشة اقتراح تمديد الولاية للمرة الثالثة.
ثانيهما، امتناع رئيس الجمهورية عن توقيع مرسوم فتح عقد استثنائي لمجلس النواب في الشهر الاخير من عقده العادي، ما يحول اذذاك دون اجتماعه في المدة المتبقية من نهاية ولايته. اشترط عون لاصدار مرسوم فتح عقد استثنائي الاتفاق سلفاً على قانون جديد للانتخاب. كان الثمن المقابل العودة الى تمديد الولاية 11 شهراً.
بذلك انضم خلاف الرجلين على المادة 54 من الدستور، والسجال حيال توقيع الوزير المختص مرسوماً ينقسم الرأي في تقييم اختصاصه به، الى رزمة نزاعات رئيسي الجمهورية والمجلس، المستمدة بدورها من علاقة لم تكن يوماً ودّية بينهما على مر ثلاثة عقود من وجودهما في المعترك السياسي. لم يظهر مَن يصلح ذات البين، ولا استعيد تقليد الاربعاء في لقائهما الاسبوعي. اضف ان كلا منهما لا يريد ان ينسى. لم ينسَ برّي انتزاع عون جزين منه، ولم ينسَ عون معارضة برّي انتخابه رئيساً للجمهورية. كلا الاستحقاقين، في حساب كل منهما، ليس قليل الاهمية.