في أعقاب الحرب الإسرائيلية على لبنان عام 2006، صدرت تهديدات إسرائيلية للبنان بالجملة والمفرق. تجميع هذه التهديدات، من شأنه أن يبني جبلاً من الكلمات، لم يرقَ منذ 11 عاماً إلى أفعال. ثبت ميدانياً، بلا جدال، تراجع إسرائيل عن الساحة اللبنانية، بما يؤكد حالة ارتداعها وترسّخه في السنوات الماضية، في موازاة وسياق تهديداتها المتكررة.
منذ 11 عاماً، وجّه المسؤولون الإسرائيليون، تباعاً، تهديدات بلا توقف: سنعيد لبنان 20 عاماً إلى الوراء. عشرات الأعوام إلى الوراء، ومن ثم المئات؛ لن نبقي حجراً على حجر، وسنعيد لبنان إلى العصر الحجري... كانت التهديدات تنتقل من لسان مسؤول إلى آخر، مع تسابق في إطلاق الكلمات وتنميقها. «اللطيف» في هذه التهديدات أنه في حال تحقق جزء يسير منها، لكان لبنان عاد إلى العصر الطباشيري الأول لا العصر الحجري. لكنّ ما بين القول والفعل فروقاً كبيرة جداً، وكثيراً من المعاني والدلالات، التي لو أدركها الإسرائيلي جيّداً، لما أقدم على إطلاقها.
آخر هذه التهديدات جاء أمس على لسان وزير الشؤون الاستخبارية، يسرائيل كاتس، الذي عاد واستخدم عبارة «العصر الحجري» في أحدث تهديد للبنان. المفارقة، التي لم تكن مفاجئة، أن تهديد كاتس جاء من خلال وسيلة إعلامية سعودية، وهي موقع «إيلاف» الشهير بتطبيعه مع الاحتلال، كجزء من دائرة تطبيع سعودية أوسع تتكشف يوماً بعد يوم. المقابلة هي الثانية من نوعها في «إيلاف»، في غضون أشهر معدودة، لمسؤول إسرائيلي في منصبه، إذ سبقتها مقابلة مع رئيس أركان جيش الاحتلال، غادي أيزنكوت، الذي أكد بدوره أن إسرائيل لن تقبل بأن يكون هناك تهديد استراتيجي في مواجهتها من الساحة اللبنانية، في إشارة منه إلى قدرات المقاومة، رغم استبعاده في المقابل إمكان التدهور الأمني والمواجهة.
في مقابلة كاتس جملة إشارات ودلالات. لكن قبل ذلك، يجب الإشارة إلى نقطتين إيضاحيتين، بما خصّ الساحة اللبنانية، وما جرى تداوله على أنه تهديد للبنان:
ــــ واضح أن «تهديد» كاتس جاء في إطار محاولة تعزيز الردع الإسرائيلي مقابل الساحة اللبنانية، أكثر من كونه دلالة أو مقدمة لعمل عدائي ابتدائي ضد لبنان. التهديد جاء، كما ورد، تهويلياً في سياق التأثير على وعي صانع القرار في لبنان، لمنع تبلور أيّ مقدمات ميدانية من شأنها أن تؤدي أو أن تتسبب في مواجهة شاملة بين الجانبين، الواضح جداً أن إسرائيل لا تريدها وتعمل على تجنّبها. حديث كاتس، كما يرد في المقابلة، جاء افتراضياً، ومبنياً على «إذا» شرطية كبيرة جداً، أنه في حال اندلعت المواجهة مع حزب الله، فلن تكون كما كانت عليه عام 2006، بل ستكون أسوأ بكثير وأكثر تدميراً في لبنان.
ـــ واضح أيضاً تساوق مقاربة الوزير الإسرائيلي مع التوجهات السعودية للساحة اللبنانية، وتحديداً المبادرة العدائية للرياض التي سبقت وواكبت وأعقبت احتجاز رئيس الحكومة سعد الحريري، وإجباره على تلاوة بيان الاستقالة من السعودية. كان واضحاً أن كاتس أكمل وأتمّ تهديداته، بناءً على التهديدات السعودية نفسها كما وردت في حينه، وانطلاقاً من أن الهدف والغاية والمصلحة واحدة بين الجانبين. بحسب كاتس، «أذكر مؤخراً أن وزيراً سعودياً (ثامر السبهان) قال إنه سيعيد حزب الله إلى الكهوف في الجنوب، أنا أقول: سنعيد لبنان إلى العصر الحجري». في هذا الإطار أيضاً، لم يُخفِ كاتس أنه يتساوق في تهديداته ومقاربته مع رؤية وتطلّع وأهداف «جهات الاعتدال» في العالم العربي، منوّها بموقف السعودية والاردن ومصر والجامعة العربية من حزب الله، وكذلك بما وصفه بـ«الفرصة الممتازة» لاستقالة الحريري من السعودية، حتى وإن عاد وتراجع عنها.
في الدلالات، تبرز نقطتان اثنتان، تستأهلان الإشارة إليهما، والتشديد عليهما:
1ــ واضح جداً أن المقابلة تأتي في سياق تحقيق غاية محددة، وهي تبرئة إسرائيل وتبييض صفحتها وتظهيرها بصورة الجهة التي تتلقى الأحداث والمتغيرات، مثلها مثل الفلسطينيين، في أعقاب قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لدولة الاحتلال. وهي محاولة، من قبل الموقع السعودي وكاتس، بالتضامن والتكافل من خلال الأسئلة والأجوبة، للتقليل من أهمية إعلان ترامب ومضمونه وتداعياته، والتشديد على أن شيئاً دراماتيكياً لم يحصل، وأنه «مجرد إعلان لا يغيّر من الوضع القائم في القدس والأماكن المقدسة فيها».
2ــ الواضح أيضاً، بالتكافل والتضامن بين السائل والمجيب، محاولة حرف الأنظار عن القدس والقضية الفلسطينية، من خلال إعادة التركيز على «المحور الإيراني» وحزب الله وفصائل المقاومة، مقابل محور «الاعتدال» وإسرائيل.
في العودة إلى التهديد، وإلى «العصر الحجري»، من الضروري الإشارة إلى الآتي:
لا يجوز ويجب عدم التعامل مع تهديدات إسرائيل بخفّة، إذ لا يمكن الركون إلى نياتها العدائية رغم ارتداعها. لكن يجب أن تكون المعادلة الميدانية القائمة بين لبنان وإسرائيل حاضرة، وإلا غابت القدرة على تحليل التهديدات ومقاصدها من جانب العدو.
تملك إسرائيل قدرات عسكرية من شأنها، في حال تفعيلها، أن تلحق دماراً هائلاً في الساحة اللبنانية. لكن إلى جانب هذه الحقيقة المادية القائمة فعلياً، توجد حقيقة ثانية موازية لها ولا تنفك عنها، ويدركها صاحب القرار في تل أبيب، وهي أن الثمن المقدّر أن يدفع في حال قررت إسرائيل مهاجمة لبنان، لا تحتمله ولا يمكنها التعايش معه. هذا الثمن حقيقة مادية ثانية مترسخة بلا جدال في الوعي الجمعي للإسرائيليين ولدى قيادتهم أيضاً، إلى جانب حقيقة قدراتهم التدميرية. هذا الثمن هو الذي يحول ويردع إسرائيل إلى الآن، بعد 11 عاماً على الحرب الماضية، عن تفعيل قدراتها التدميرية التي تهدد بها، سواء كان التهديد بإعادة لبنان إلى الكهوف، كما هددت السعودية، أو إلى العصر الحجري والطباشيري، كما تهدد إسرائيل.