باريس | بعد قرابة أسبوع من الصمت الرسمي الفرنسي حيال التطورات المتسارعة في السعودية، أقدم الرئيس إيمانويل ماكرون على خطوة فاجأت حتى أقرب مستشاريه، حين قرر القيام بزيارة خاطفة إلى الرياض، ليلة أول من أمس، في أعقاب زيارته للإمارات. خطوة لم تكن متوقعة، بالنظر إلى الحياد الذي فرضه ماكرون على دبلوماسيي بلاده منذ إطلاق حملة الاعتقالات الأخيرة في السعودية.
لم يُخفِ الرئيس الفرنسي أنّ محطته المرتجلة في الرياض جاءت بوحي من «صديقي، وليّ العهد الإماراتي»، إذ قال، في المؤتمر الصحافي الذي عقده في دبي، إن محمد بن زايد «له رؤية دقيقة جداً لما يحدث في السعودية، بحكم علاقاته الوثيقة بولي العهد السعودي، وهو أمر لا يخفى على أحد».
الرواية الرسمية، كما شرحها مستشارو الرئيس الفرنسي لمراسلي الصحف الذين رافقوه خلال زيارته الى الإمارات، تشير إلى أن دور محمد بن زايد تمثّل في التوسط لدى ولي العهد السعودي من أجل السماح للسفير الفرنسي في الرياض فرانسوا غوييت بلقاء الرئيس سعد الحريري، للتثبت من أنه «غير محتجز ضد إرادته». لقاء لم يدم سوى دقائق معدودة، لكنه كان كافياً لإقناع ماكرون بالتجاوب مع مقترح صديقه ابن زايد بالتوقف في العاصمة السعودية في طريق عودته إلى باريس.

المسألة الوحيدة الثابتة في الموقف الفرنسي هي
رؤيتها للاتفاق
النووي الإيراني


وكان لافتاً أن هذه الزيارة لم يعلم بها حتى أقرب مستشاري ماكرون إلا حين أعلن عنها رسمياً، خلال مؤتمره الصحافي في دبي، قائلاً إن فرنسا «حريصة على أن تتحدث إلى جميع القوى الإقليمية المؤثرة في المنطقة»، وإنها «تريد أن تلعب دور وسيط سلام وعامل تهدئة، سواء في ما يتعلق بالتوتر مع إيران أو بالتطورات المقلقة في الملفات المتعلقة باليمن ولبنان»، قبل أن يفاجئ الجميع بقوله: «سأسعى لإشعار جارتكم السعودية بخصوص كل هذه المسائل، حيث سأتوقف في الرياض قبل عودتي الى باريس».
العارفون بخفايا الصلات التي تربط ماكرون بمحمد بن زايد، والتي بدأ البعض يقارنها بالصلات التي كانت قائمة بين الرئيس نيكولا ساركوزي وأمير قطر تميم بن حمد، يعتقدون أن الوساطة في مسألة لقاء السفير الفرنسي بسعد الحريري ليست سوى الجزء الظاهر من جبل الثلج. أما الأسباب الفعلية التي دفعت ماكرون إلى المجازفة بأن يكون أول رئيس غربي يزور الرياض قبل أن تتضح تماماً معالم المشهد السياسي الجديد في السعودية، فهي مرتبطة بما تصطلح عليه وسائل الاعلام الفرنسية بـ«دبلوماسية دفتر الشيكات»!
فقد أغدق ولي عهد الإمارات على «صديقه» الفرنسي حزمة من الصفقات الاستثمارية الضخمة التي قدّرتها صحيفة «لوفيغارو» بنحو مليار يورو. وكان هذا الكرم كفيلاً بدفع ماكرون إلى الارتماء في أحضان ولي العهد السعودي. واللافت أن محمد بن سلمان لم يتردد بدوره في اللجوء إلى «ديبلوماسية دفتر الشيكات» لتليين موقف الرئيس الفرنسي. فقد أعلن الإليزيه، في أعقاب اللقاء في مطار الرياض، أن السعودية ستقوم بتمويل «القوات الخماسية» لدول غرب أفريقيا التي حصل ماكرون على الضوء الأخضر من مجلس الأمن لتشكيلها، لكنه لا يزال يبحث منذ الصيف الماضي عن حوالى ملياري يورو تحتاج إليها هذه القوات المتعددة الجنسية لتحل محل القوات الفرنسية التي ترغب باريس في إخراجها بأسرع وقت من المأزق الأمني والسياسي الذي تواجهه في منطقة الساحل الأفريقي.
ورغم أن بيان «الإليزيه»، الذي صدر عقب لقاء ماكرون وابن سلمان، شدد على حيادية الموقف الفرنسي وتمسّكه بضرورة تفادي أي تصعيد، سواء في العلاقات الخليجية ــ الإيرانية أو بخصوص اليمن ولبنان، إلا أنّ مفعول الكرم السعودي كان واضحاً، حيث لم يتضمن بيان الرئاسة الفرنسي أي إشارة إلى مسألة السماح لسعد الحريري بمغادرة الرياض.
حتى في ما يتعلق بالحرب على اليمن، فقد لوحظ تراجع كبير في الموقف الدبلوماسي الفرنسي، حيث اقتصرت المطالب التي نقلها ماكرون لوليّ العهد السعودي على مسألة واحدة تتعلق بفتح «منافذ إنسانية» لإيصال المعونات الدولية إلى المتضررين، بعد أن أحكمت السعودية الحصار على كل الموانئ والمطارات اليمنية.
المسألة الوحيدة التي لم يتغيّر الموقف الفرنسي بخصوصها هي الموقف من الاتفاقية المتعلقة بالنووي الإيراني، حيث شدد ماكرون على أن «تدمير هذه الاتفاقية سيؤدي إلى الحرب أو إلى سباق تسلح غير مأمون العواقب». لكنه سرعان ما استدرك، ترضية لمضيفه السعودي، بأن «الهجوم الصاروخي الذي أطلقه الحوثيون على الرياض يثبت أن الاتفاقية النووية لا تكفي وحدها، بل يجب العمل على اتفاقية مماثلة بخصوص برنامج الصواريخ الباليستية الإيراني»!