صحيح أنّ اسم المخرج زياد دويري تصدّر مواقع التواصل الاجتماعي، أمس، إلا أنّ النقاش الحقيقي والواجب في هذا البلد حُرِّف عن مساره. اكتفى مغردون بالهجوم على دويري، فيما انبرت حفنة أخرى من الصحافيين والناشطين المعروفين على هذه الشبكات بالدفاع عنه، وتمييع القضية الأساس: التطبيع مع العدو الإسرائيلي. تحت عناوين مخادِعة ومضللة للرأي العام، قاد هؤلاء حملتهم مناصرةً لدويري، على رأسها «الحريات»، و«الإبداع».
خرج وزير الثقافة غطاس خوري ليعلن وجوب «تكريم واحترام» المخرج اللبناني ــ الفرنسي. أما الإعلام اللبناني، الذي انقسمت جبهاته، فقد برز جزء معروف منه، ينتمي الى الجناح السياسي لفريق 14 آذار. هذا الإعلام تعامل مع خبر احتجاز جواز سفر دويري، واستدعائه الى المحكمة العسكرية، على أنه تشويش عشية العرض الأول لفيلم «قضية 23» في بيروت، ووضع ثقله في الدفاع عن المخرج المطبّع. أيضاً، بانت سذاجة واضحة من هذه المنابر، التي كان بعضها يجهل سبب توقيف صاحب «الصدمة»، وغابت عنها أي خلفية معرفية في هذا الموضوع. هكذا، صوّبت السهام على بعض الصحافة التي أعادت البوصلة الى مكانها، فوصفها بنعوت مخيفة من قبيل «صحافة بوليسية وواشية».

استفزت أسئلة مراسل
«الجديد» دويري الى حد
فقدانه صوابه

في قضية بحجم التطبيع مع العدو، وتلكؤ الأجهزة الأمنية اللبنانية في ملاحقة دويري لقضائه 11 شهراً في الأراضي المحتلة وتصويره فيلم «الصدمة»، تلكأ الإعلام اللبناني عن دوره في المساءلة وفي الإحاطة بهذا الملف الذي لا يحتاج الى التأويل. قناة lbci كانت من أول المحطات اللبنانية التي حظيت باتصال مع دويري في فقرة «الأخبار من عندك». مداخلة مقتضبة له، وغياب أي سؤال مهني جدي له. اختزل دويري النقاش وسخّفه، عبر ترداد أن ما يحدث اليوم هو مجرد تشويش على فيلمه الجديد الذي يبعث برسائل «تصالحية مع الآخر»! على مقلب mtv، خرج مراسلها آلان درغام من أمام «المحكمة العسكرية» في رسالة مباشرة من هناك، ضمن نشرة الظهيرة أمس. وبكل سذاجة، قال إنه «لا نية جرمية حيال القضية الفلسطينية»، وإن دويري «ذهب الى إسرائيل وصوّر مشاهد من هناك»، وهو أراد «الدفاع عن القضية الفلسطينية». ومن لم يفهم قصد درغام، يقول له الأخير «اللي حضر الـ movie، بيفهم شو عم إحكي»!
وبين تشدّق المراسل بأعمال دويري التي «وصلت الى العالمية»، وبالدولة اللبنانية التي «حمت مواطنيها وجعلت العدالة أولى مسؤولياتها»، أعطى المراسل الشاب «الصورة الكاملة» للقضية على حد تعبيره. صورة ساذجة ومجتزأة، تجافي أي منطق في تبرير المكوث في الأراضي الفلسطينية، وأنسنة العدو الصهيوني، لكنّها متناغمة ربما مع ما دأبت قناة المرّ على الترويج له.
دويري الذي أدلى بتصريحات للإعلام بعيد خروجه من المحكمة، صوّب سهامه نحو «الجديد»، التي استفزته أسئلة مراسلها حسّان الرفاعي، الى حد فقدان المخرج اللبناني صوابه، وتفوّهه بكلمات نابية خارج الهواء كما علمنا. ولم تسلم القناة ولا مراسلها من الهجوم على خلفية أسئلة الرفاعي التي ركزت على محاسبة القانون اللبناني لمجرد ذهاب دويري الى الأراضي الفلسطينية، وعلى التطبيع الذي أقامه مع العدوّ. استُفزّ دويري، فهاجم القناة التي «تعيد ذات الأغنية» برأيه، كما مراسلها الذي قال له دويري: «سؤالاتك عيب... ما بهمّني اللي عم تقوله (..)، أنا متضامن مع القضية الفلسطينية قبل ما تخلق».
باختصار، غابت المساءلة الأساسية التي كان يجب على الإعلام ممارستها. أسهم في ذلك، فصل دويري في تصاريحه الصحافية بين الدولة التي عاملته بشكل جيد، وبين الصحافة التي تريد الاقتصاص منه ومن نجاحاته! والأنكى غياب أي وعي حقيقي في هذه الميديا والنيو ميديا، بأنّ القضية الفلسطينية ليست قضية سياسية يتم فصلها عن الفن والثقافة وغيرهما. سردية ما فتئنا نسمعها كل مرة، مع المطبّعين مع العدو، وعلى رأسهم اليوم دويري الذي توجه الى الإعلام قائلاً «إذا بدي إتحاكم أحاكَم كسينمائي وليس كسياسي». عملية كيّ الوعي هنا أجهضت بمعية المنابر المذكورة، القضية الأساس، وذهبت بنا الى اتجاه آخر. اتجاه يريد محاكمة الصحافة، ويدافع ويطبّل للمطبعين.
تغريدات بالجملة، وصفحات تدّعي مناصرة الحريات، شاهدناها تذرّ الرماد في العيون، وتمارس التعمية؛ من ضمنها الصفحة المشبوهة على فايسبوكStop Cultural terrorism in lebanon، التي أعادت نشر تغريدة الصحافي القواتي طوني أبي نجم الذي قال «إذا منترك المحكمة العسكرية على راحتها، مش بس زياد دويري بيفوت على الحبس كمان أمين معلوف وكارلوس غصن وغيرن كتار»، وصفحات «سكايز» (عيون سمير قصير) على شبكات التواصل الاجتماعي، وموقع «النهار» الإلكتروني الذي صوّر دويري بهيئة الرجل المسكين عندما عنون «زياد دويري بلا جواز سفر»، وغيرها من المنابر التي ألصقت على صفحاتها صورة للمخرج اللبناني برسالة واضحة: زياد دويري مخرج ناجح، وأعداء النجاح والغيورون من أعماله يحاولون اليوم تشويش الاحتفاء بفيلمه الجديد، والإبداع لا يحدّه شيء... حتى لو ذهب الى فلسطين المحتلة وأنسن العدو الصهيوني!