في 25 تشرين الثاني الماضي، التأم المجلس العدلي للبحث من جديد في الدعوى المحالة أمامه في قضية اغتيال الرئيس بشير الجميل ورفاقه عام 1982. ورثة الجميل وسياسيون أصدقاء لهم كانوا حاضرين في تلك الجلسة.
محامو الفريق المدعي اتخذوا أماكنهم للدفاع عن رئيس للجمهورية اشتهر بعلاقاته مع العدو الإسرائيلي الذي ساهم في إيصاله إلى سدّة الرئاسة، بصرف النظر عن حجج الجميل والجبهة اللبنانية لتبرير هذه العلاقة. أما المدعى عليه حبيب الشرتوني، فلم يجد شخصاً واحداً يقف خارج القاعة يحمل صورته ويهتف باسمه، معلناً تضامنه معه. الحزب السوري القومي الإجتماعي الذي انتمى إليه وحمل عقيدته، التي دفعته إلى تنفيذ العملية، غاب عن جلسة المجلس العدلي ولم يحضر أي محام قومي يتحدث عن دوافع تنفيذ العملية ويُطالب بفتح الملّف الكامل للحرب الأهلية وإلا فلتُختم كلّ فصوله وفقاً للصيغة اللبنانية «لا غالب ولا مغلوب». ولكن، حين يتعلّق الأمر بالجميل تصبح مجرد الإشارة إلى تاريخ الرجل أمرا مُحرماً. يخرج مؤيدوه ليشنوا هجوماً على أي منتقد، مبررين له كل خطاياه. تُجاهد القوى السياسية والأفراد لعدم «استفزاز» مشاعر هؤلاء. اللعبة السياسية تقتضي تقديم التنازلات ربما، حتى ولو كان ذلك على حساب التاريخ والحقائق. لا أحد يعلم كم عدد مؤيدي الجميل. يكفي أن يلوذ الطرف الآخر بالصمت، «مذعوراً» حتى يوحي البشيريون بأنهم أكثرية! من بعيد، يبدو الحزب القومي مُحرجاً أيضاً من تناول هذا الملّف، في حين أنّه من المفترض أن يكون «فخوراً» بمقاوم من صفوفه سدّد ضربةً قاضية في مرمى الخصم، في إطار الحرب بين مشروعين متناقضين. قد يعيد البعض السبب إلى الدور السياسي للحزب في النظام اللبناني وعدم رغبته في إثارة ملف حساس يستفز بقية المكونات. فأحد أبرز حلفاء القومي هو التيار الوطني الحر الذي ينظر بإيجابية إلى الجميل. والبعض الآخر، يرى أنّ السبب يعود إلى زمن الخلاف القومي ــ القومي بين مسؤول شعبة الأمن في الحزب القومي الراحل نبيل العلم ورئيس الحزب السابق النائب أسعد حردان. وهنا لُبّ القضية.

يعيد البعض صمت القومي تجاه الشرتوني إلى الخلاف بين نبيل العلم وأسعد حردان


كان حبيب طانيوس الشرتوني منفذ عملية تفجير بيت حزب الكتائب في الأشرفية. التخطيط تُرك للرجل الأمني نبيل العلم. تحول الشرتوني إلى رمز من رموز مقاومة العدو الإسرائيلي، ومثالا أعلى لدى الأفراد القوميين، تماماً كما هي سناء محيدلي وخالد علوان مثلاً. إلا أنه، بعد عام 1990 (تاريخ خروجه من السجن) انكفأ عن أي نشاط إعلامي وحزبي. وبعيداً عن حماسة الحزبيين، لم يجد تنظيماً يتبنى قضيته. حتى في ظلّ الوجود السوري في لبنان والنفوذ الذي كان يتمتع به على المستويات كافة، لم يحصل الشرتوني على عفوٍ على عكس كثير من لاعبي الحرب الآخرين الذين شغلوا في ما بعد مناصب في الدولة. قوى المقاومة جميعها تجاهلت ملفه، إلى أن اعيد تحريك الملف عدلياً، فدعا التجمع اللبناني العربي إلى وقفة تضامنية مع الشرتوني يوم عيد الاستقلال. وحضر اللقاء جمع من ممثلي قوى تُحسب ضمن فريق 8 آذار، أبرزهم عضو المكتب السياسي في حزب الله محمود قماطي. ونفى رئيس التجمع عصام طنانة أي صلة لحزب حبيب الشرتوني بالتجمع.
في مقابلة له مع «الأخبار» عام 2012 (العدد ١٧٦٣)، قال الشرتوني إنّ «الحزب اعتبرني منذ 1982 عبئاً عليه وتنكّر لي إلاّ من باب التباهي بالبطولة الآتية هكذا من خلف الضباب والسحاب وعلم الغيب. بينما كان هاجسي حمايته وعدم تعريضه أو تعريض أي فرد من أفراده لأي أذى. ومع الوقت اقتنع الناس بأنني فتحت بطولة على حسابي، وهذا التعبير الساخر لسعيد ميرزا (...) بعد ثلاثين عاماً من السجن والتعذيب والنفي وخسارة أهلي وأربعة أفراد من عائلتي وكل ما أملك، وعدم تكبيدهم أي خسارة، انزعج خاطرهم من تعبير صغير قلت فيه: نفّذت ما طُلب مني تنفيذه»! من الطبيعي أن تُعلن قيادة القومي أنّها لم تتخذ قراراً بالعملية. ولكن من المعروف أنّه في معظم الأحزاب التي تتألف من جناحين سياسي وعسكري، يتخذ هذا الأخير طابعاً سرياً منعاً لأي خرق. تحت هذه الحجة يجد الشرتوني نفسه «يتيماً». بالنسبة إلى مقربين منه، «من يرد أن يتبنى حبيب، فعليه أن يتبنى قائده أمين العلم، الذي تتنكر له القيادة».
الحزب القومي لم يُصدر أي بيان رسمي عن إعادة محاكمة الشرتوني، مكتفياً بما نُشر في الصحيفة الناطقة باسمه «البناء». يرى عميد الإعلام في الحزب معن حمية أنّ ما يحصل هو حملة إعلامية ضد الشرتوني، وبالتالي، «الردّ على ورثة يُحاولون تبييض صفحة شخص أتى على ظهر دبابة اسرائيلية يكون في جريدة البناء». يُحاول إخراج الملف من إطاره الحزبي وإعطاءه بعداً وطنياً، «فمسؤولية الجميع أن يرفعوا الصوت ويقولوا إن من المعيب محاكمة حبيب بهذه الطريقة، وهو الذي تبنته عدّة قوى وكلّ اللبنانيين باستثناء ورثة العمالة». ولكن كحزب، «نحن لسنا بصدد القيام بشيء بالمعنى الحقيقي، طالما حبيب غير موجود في لبنان». حتّى عن مسألة تعيين محامٍ للمدعى عليه، «فهو ليس في البلد ولم يعطِ وكالة لأحد».
القصة في اغتيال الجميل هي «وجود عميل اسرائيلي رأى حبيب أنه يجب أن يقوم بفعل معين تجاه هذه المسألة. في مرحلة الإجتياح كان كل مواطن يتصرف حسب دوافعه الوطنية». يتكرر السؤال على حمية أكثر من مرّة: هل تتبنون الشرتوني؟ ولكنه يُصر على جوابٍ واحد: «إذا انتي بتعمليها منتبناكي!». يرى حمية أن من الخطأ الربط بين الصمت الحزبي في قضية الشرتوني والحفاظ على تمثيل القومي في الدولة. أما في أن يكون السبب انتماء الشرتوني إلى جبهة واحدة مع العلم، فيجيب بأنّ «هذه المقاربة خطأ. التاريخ لا يُجتزأ والمسائل لا تُصنف بوجود علاقة أم لا مع القيادة». طيب هل طلب منكم الشرتوني عدم التدخل؟ يرد حمية: «ما عندي جواب».