ينظم حزب الله جولة إعلامية على مقاطع من الحافة الأمامية للحدود مع فلسطين ليتيح أمام الرأي العام الفرصة لمعاينة التغييرات التي يحدثها جيش العدو على طوبوغرافيا المنطقة خشية من هجوم بري للمقاومة في الحرب المقبلة، فتنهمر التعليقات الإعلامية الإسرائيلية شبه التلقائية: الخطوة تعكس أزمةً يعيشها الحزب.
يلقي الأمين العام للحزب السيد حسن نصر الله خطاباً يلوح فيه بمعادلة ردع الأمونيا، فيخرج رئيس أركان الاحتلال غادي آيزنكوت ليقول إن تهديدات نصر الله منشؤُها أزمة معنوية ومالية تعصف بالحزب جراء تورطه في سوريا. آيزنكوت نفسه لا يفوّت فرصة التعليق على «وثائقي» عرضته قناة «العربية» تفبرك فيه اتهام الحزب باغتيال قائده العسكري، مصطفى بدر الدين، فيبادر مؤكداً صحة ما عرضته محطة آل سعود بوصفه يكشف عن «عمق الأزمة الداخلية في حزب الله». ترفع قناة «المنار» وتيرة عرض إعلاناتها التي تستهدف استدراج التبرعات لـ«مؤسسة الشهيد» أو لـ«هيئة دعم المقاومة»، فينبري محللون إسرائيليون ليستدلّوا بذلك على حجم الأزمة الاقتصادية التي يعانيها الحزب، والتي وصلت بحسب بعضهم حدّ «تقليص الإنفاق على الطعام لجنوده». يُجري حزب الله عرضاً عسكرياً داخلياً في مدينة القصير، فيرى معلقون في دولة الاحتلال أن الحزب يريد بذلك التغطية على مأزقه الداخلي اللبناني.

«أزمة» حزب الله
أتاحت له تنمية قدراته العسكرية بمقاييس تاريخية وجعلت منه تهديداً أوّل لإسرائيل


يمكن للمرء، بسهولة، استرجاع نماذج وافرة عن التكرار الممجوج لـ«أزمة» حزب الله في الأدبيات الإسرائيلية المتداولة. تكرار يكاد يتحول إلى لازمة في كل مقاربة يجري فيها التطرق إلى الحزب، بمناسبة ومن دون مناسبة. وتوخياً للدقة، تجدر الإشارة إلى أن بداية هذه المعزوفة لا تعود إلى «تورط» الحزب بالقتال داخل سوريا و«اشتعال النيران بعباءة نصر الله» جرّاء ذلك (على حدّ تعبير رئيس الأركان الإسرائيلي السابق بيني غانتس). وإنما تسبق ذلك بسنوات كثيرة. إذ بدأت منذ عام 2000، مع الانسحاب الإسرائيلي من لبنان، وهو انسحابٌ جرى الرهان في أعقابه على إيقاع حزب الله في «مأزق» سحب بساط المشروعية من تحت مقاومته، بسبب انتفاء الاحتلال. وجاء التعبير الأبرز عن هذا التوجه في التصريح الشهير لرئيس الأركان في حينه، موشيه يعالون، الذي رأى أن «صواريخ حزب الله ستصدأ في مخازنها». ثم ما لبث أن وقع الحزب ــــ إسرئيلياً ــــ في «أزمة» القرار 1559، ثم «أزمة» اغتيال الرئيس رفيق الحريري وانسحاب القوات السورية من لبنان، فـ«أزمة» الصراع الداخلي على سلاحه، وصولاً إلى «أزمة» المحكمة الدولية. وبالعودة إلى المواكبة الإسرائيلية لكلّ هذه الفترة، يتبيّن أن سردية «الأزمة» شكّلت، تقريباً، الإطار التفسيري لكلّ مقاربة إسرائيلية تعلّقت بواحدٍ من أفعال حزب الله أو ردوده.
ليست الغاية من هذا التأصيل للسردية المذكورة نفيها أو تفنيد صحتها. فحزب الله، في نهاية المطاف، يخوض منذ خمسة أعوام حرباً بأبعادٍ كونية، بلغت خسائره فيها مئات الشهداء وآلاف الجرحى، ناهيك عن الأكلاف المادية التي تنوء بها دول. وهو يفعل ذلك في الساحة الأصعب بالنسبة إليه، أي الساحة التي لم يُعدّ نفسَه عسكرياً أو تعبوياً ليقاتل فيها، وهو الذي تَهَيْكَلَ عقائدياً وتعبوياً وعسكرياً منذ نشأته لمقاتلة إسرائيل. ولا يحتاج المرء إلى الاستدلال ليتوصل إلى الاستنتاج البديهي بأن تنظيماً عسكرياً أياً تكن إمكاناته، لن يكون مرتاحاً في وضعية كهذه، فضلاً عن الإقرار الموضوعي بأن ثمة محطات مرّت بها الحرب السورية، لا سيما في بداياتها، انطبقت عليها صفة الأزمة الحقيقية بالنسبة إلى الحزب ومحوره عموماً. لكن هذا أمر، والسردية الإسرائيلية لـ «الأزمة» أمر آخر.
في الحالة الأخيرة نحن، بوضوح، أمام قراءة إسرائيلية هادفة يتوزع نشرُها بين جهات عدة: سياسية وإعلامية وعسكرية، علماً أن شهادة المنشأ الخاصة بها تعود بنسبة كبيرة، ربما شبه حصرية، إلى الاستخبارات العسكرية بوصفها الجهة المسؤولة عن تقييم وضعيات الأعداء. وهي قراءة تختلط في إنتاجها روافد من التقدير «الموضوعي» والتفكير الرغائبي (wishful thinking) والتوجيه الإعلامي والحرب النفسية، بقدر ما يتعدد الجمهور الذي من المفترض أن تخاطبه: قيادة العدو، جمهوره، القواعد الشعبية لحزب الله، وعموم الرأي العام اللبناني والعربي. يمكن القول، مثلاً، إن سردية الأزمة تجد لها مكاناً جزئياً في دائرة القناعات الفعلية للقيادة الإسرائيلية، بقدر ما ترغب هذه القيادة أن يكون الأمر صحيحاً. كما يمكن الجزم بأن مؤسسة العدو عموماً تسعى بطريقة «غوبلزية» لتكريس هذه السردية في الوعي العام، إسرائيلياً ولبنانياً وعربياً، على أمل أن تصدق النبوءة نفسها، أو يصدقها البعض فتتحول عنده إلى حقيقة يُرتِّب عليها المقتضى. ألم نشهد في لبنان، مثلاً، رهانات استمرت لسنوات على «القطاف» الداخلي الذي سيترتب عن انكسار حزب الله في سوريا؟ هنا يجدر التأمل في التناغم القائم، ترويجياً على الأقل، بين الأدبيات التي يستخدمها أصحاب هذه الرهانات بشأن تقدير وضعية الحزب ، وبين «رواية الأزمة» الإسرائيلية. إذ إننا سنجد أنفسنا أمام ما يشبه التغذية المتبادلة، باستثناء أن العدو الإسرائيلي أكثر جرأة ــــ وتصميماً ــــ في استخدام وتوظيف المصطلحات المذهبية لتسمية الأشياء.
لكن ثمة إشكالية، وهي أن عموم المقاربة الإسرائيلية لوضعية حزب الله تنطوي على مفارقة لا إمكان للتسوية فيها. فعلى خط موازٍ لسردية «الأزمة» المعتمدة، تروّج تل أبيب بدَأبٍ نسقي لرواية أو سردية أخرى هي «تعاظم حزب الله». ومفاد هذه الأخيرة أن الحزب يراكم، رغم الحرب السورية وبسببها، قدرات تسليحية وتدريبية وعملانية غير مسبوقة حوّلتهُ، رسمياً وبإقرار صريح من القيادتين العسكرية والسياسية، إلى التهديد الأول بالنسبة إلى إسرائيل. يعني ذلك أن ثمة تناقضاً بنيوياً في ترتيب جدول التهديدات والفرص الإسرائيلي المتعلق بحزب الله. فالأزمة، بطبيعتها، تختزن تهديداً على صاحبها وتنتج فُرَصاً بالنسبة إلى عدوه. في حين أن ما نشهده، بحسب الرواية الإسرائيلية، هو أن «أزمة حزب الله» أتاحت له تنمية قدراته العسكرية بمقاييس تاريخية، وجعلت منه تهديداً أوّل على عدوه الإسرائيلي!
هذا على الصعيد النظري. لكن، بلغة عملية، إذا استثنينا الغارات التي تستهدف ما تقول إسرائيل إنه أسلحة استراتيجية لحزب الله في سوريا (وهذه لها ظرفها المتصل بالأزمة السورية تحديداً)، يتعذر العثور على حِراكٍ أو نشاطٍ إسرائيلي يمكن تصنيفه في خانة استغلال الفرصة التي توفرها «الأزمة» السياسية والاقتصادية والشعبية والعسكرية «العميقة» التي تعصف بالحزب. فالثابت أن إسرائيل لم تتجرأ حتى اليوم (رغم محاولتها) على إحداث أي تغيير في قواعد الاشتباك التي تحكم العلاقة الردعية المتبادلة بينها وبين حزب الله في الساحة اللبنانية ذات الصلة بالصراع بينهما. التفسيرات المحتملة لذلك: إما أننا أمام وداعة إسرائيلية من نوع غير معهود إزاء عدو تل أبيب الأخطر؛ أو أن «أزمة» حزب الله، ببساطة، ليست أزمة. أي إنها ليست كما تروّج إسرائيل (ضمن سياق حربها النفسية) أو تتمناه (على خلفية تفكيرها الرغائي) أو تعتقده (وإذا فعلت، فإنها تخلط بين الأزمة كمفهوم، وبين الأكلاف المترتبة على تبنّي مشاريع كبرى أو مواجهة المشاريع الكبرى، كما هي حال محور المقاومة في سوريا. وهي أكلافٌ من طبيعتها أنها تُدفع لا لتبقي صاحبها فوق حلبة التاريخ فحسب، بل لتمنحه شرف صناعته).
«انتصروا علينا وانسحبوا»، تهكّم شاعر فلسطيني في الماضي القريب، معلقاً على أصوات إسرائيلية قدّمت الانسحاب الأحادي من لبنان وغزة بقالب الإنجاز. تشبه سردية الأزمة الإسرائيلية حول حزب الله هذا النوع من إنجازات تل أبيب. نوع حريٌّ به أن يدفع الحزب إلى التماس المزيد من الأزمات، طالما أن حصادها تعزيز دوره الإقليمي والتحليق بحضوره الردعي في قبالة العدو الإسرائيلي.