كتب الكثير في الأسابيع الأخيرة عن رئيس التيار الوطني الحرّ جبران باسيل. ولم تكن غالبية ما كتب مديحاً لأدائه، ولا إطراءً على مشاريع القوانين الانتخابية التي يطرحها وفيها ما فيها من تجاوزات تناقض، في الحد الأدنى، الشعارات التي رفعها التيار نفسه طيلة السنين الماضية. لذا، لا يحاول هذا المقال إضافة المزيد من الانتقادات بقدر ما يهمه التوقف عند الأسلوب الأخير الذي يعتمده باسيل في خطابه وهو الاستعارات الدينية.
ليكن تاريخ 2 نيسان الفائت بداية للقصة. سئل وزير الخارجية والمغتربين، خلال مؤتمر صحافي في استراليا، عن مصير قانون الانتخابات الذي اقترحه بعدما «قوّصت عليه جريدة الأخبار»، في إشارة إلى علاقة الجريدة بحزب الله. أجابها ساخراً: «طمنيني سقط أو ما سقط؟ لأن بس حدا يقوّص، بيسقط أو جريح أو قتيل». وبعد سلسلة من الأسئلة والأجوبة، اختار باسيل العودة إلى السؤال نفسه قائلاً: «أسبوع الآلام لازم يكون أسبوع قانون الانتخاب، واللي بيعتقد إنو (القانون) مات، (فهذا) متل صلب المسيح، بدنا ننصلب كلنا سوا ليقوم قانون الانتخاب، ما في عنا طريق تاني».

من الذي يقحم الله الآن في قانون الانتخابات؟ ولأي هدف؟



كان يمكن التعامل مع الأمر بشكل عادي: استعارة دينية عابرة عشية عيد الفصح. وقد استخدم عدد من السياسيين الاستعارة نفسها صباح العيد وهم يرجون «قيامة لبنان». لكن يبدو أن الأمر لم يكن كذلك بالنسبة إلى باسيل، الذي أعجبته الإجابة فعاد وبنى عليها خاتمة مقالته التي نشرها في جريدة «النهار» في 8 نيسان الفائت تحت عنوان «قانون الحرية». نقرأ: «إن ساعة قانون الحريّة قد دقّت، وسنكون على موعد قيامته في زمن القيامة، فالصلب سبيل الزامي إليها، سنحمله ونحمل أوجاعه من أجلها. والصلب فيه شوك التجريح، وخلّ التشويه، ولوحة التقسيم، ومسمار الاستيلاء، وحربة الشهادة... فليكن! ليكن الموت، سياسياً كان أم مادياً، من أجل حريّتنا وهي أغلى قيمنا، ومن أجل حريّة أولادنا وهم أغلى ما عندنا، ليكن الصلب في أسبوع الآلام، آلام المسيح والوطن، ما دامت القيامة آتية... قيامة قانون الحريّة».
وفي هذا السياق، أمكن فهم رواج صورة قديمة لباسيل ممتطياً حماراً في إحدى القرى اللبنانية، صباح عيد الشعانين، وسخر مروّجوها من أن باسيل يشبّه نفسه بالمسيح. لكن يبدو أن الرسالة لم تصل. إذ تحولت خاتمة المقالة نفسها، بعد أيام، إلى فيديو أنتجه مناصرون لباسيل، وأعجب قناة «أو تي في»، فقرّرت بثه في نشرة أخبارها المسائية، ليل الجمعة العظيمة، في إطار مجموعة من التقارير الإخبارية التي تناولت ملف قانون الانتخابات. هكذا شاهدنا في نشرة إخبارية مسائية، عبر قناة تابعة لرئيس الجمهورية، فيديو من إنتاج مناصرين حزبيين يتبنى استعارات باسيل الدينية مرفقة بصور تستعيد صلب المسيح، لتعود وتعتذر عنه في مقدمة نشرة أخبار الظهيرة في اليوم التالي: «في إطار مواكبتها اليومية لما يتم تداوله عبر مواقع التواصل، تنشر الـ otv في نشرتها اليومية تعليقات وصوراً ومقاطع فيديو تعتبر الأكثر تداولاً، من دون أن تتبنى مضمونها بطبيعة الحال. وفي هذا السياق، بثت في نشرتها أمس شريط فيديو تداول به ناشطون يتضمن مقطعاً من مقال نشره رئيس التيار الوطني الحر الوزير جبران باسيل قبل أيام في جريدة النهار تحت عنوان «قانون الحرية»، وقد تضمن الفيديو مشاهد ذات طابع ديني، ما أثار انزعاج البعض، علماً أنه مجرد نقل لما انتشر عبر مواقع التواصل. وفي كل الأحوال، تتمتع محطتنا بالجرأة الأدبية للاعتذار عن خطأ غير مقصود في حال وقوعه».
أدركت القناة خطأها واعتذرت عنه خصوصاً أن تبنيها لهذا الخطاب كان ليعدّ أخطر من الخطاب نفسه. أما باسيل فقد تابع في السياق نفسه مستوحياً من أجواء الفصح، فغرّد عبر «تويتر» عن نجاح الرئيس ميشال عون في منع التمديد:
«الويل لذلك الانسان الذي يسلمه»... كم من يهوذا كان سيسلم اللبنانيين الى التمديد في ذكرى يومهم المشؤوم في ١٣ نيسان لولا تأجيل الرئيس للجلسة!




وعشية القيامة استعار صرخة المسيح:
«آلوهي! آلوهي! لما شبقتني؟»، فكري الجمعة كان عند اقباط مصر لكن الأحد جايي... وقانون الانتخاب كمان




في الحقيقة يصعب تجاوز هذا الأسلوب في الخطاب، خصوصاً في هذا الزمن الذي يشكو فيه المسيحيون أكثر من غيرهم من موجات القتل والتهجير التي تطالهم في دول المنطقة بسبب طغيان الفكر التكفيري الإسلامي، تماماً كما يشكو فيه المسلمون «المكفَّرون» من أحكام الردّة ومن فتاوى الذبح والسبي. لا يمكن تجاهل السؤال عن الحكمة من اللجوء إلى الدين للترويج لخيارات سياسية وللهجوم على خصوم معارضين: ماذا يعني أن يخرج رئيس تيار سياسي، على صلة مباشرة برئيس الجمهورية، يقود معركة التفاوض على قانون انتخابي يرسم الخريطة السياسية المقبلة للبنان، ليحكي باسم الدين، ويحكم بالخيانة (التكفير؟) على معارضيه: القانون هو المسيح، ورافضو القانون (من المسيحيين الآخرين) هم «يهوذا»؟ مثيراً سجالاً مسيحياً ــــ مسيحياً على مواقع التواصل الاجتماعي عمن يكون المسيحي الحقيقي، ومن يكون يوضاس؟ تماماً كما أثار إطلاق رئيس الهيئة التنفيذية في «القوات اللبنانية» سمير جعجع لشعار «دق الخطر»، وما يحمله من ذاكرة حربية، سجالاً طائفياً استعيدت فيه أجواء الحرب الأهلية.
هل يدرك باسيل خطورة هذا الأمر؟ هو الذي كتب في مقالة «قانون الحرية» أنه: «يا للأسف اكتشفنا ان لا مكان لدولة للمواطنة في هذا الوطن إلاّ للاستيلاء على صوتنا في قانون الانتخاب، وتستمرّ دولة الطوائف في الاستيلاء على قوانين الأحوال الشخصية والارث والزواج والجنسية...، أي الاستيلاء على أمور الناس باسم الله».
إذا كانت دولة الطوائف تستولي على أمورنا، باسم الله، من خلال قوانين الأحوال الشخصية، فمن الذي يقحم الله الآن في قانون الانتخابات؟ ولأي هدف؟ هل هي شرعية إضافية يحتاجها صاحب الخطاب؟ أم أنه يلجأ إلى الدين ليمنع النقاش حول القانون، وتصبح أي ملاحظة عليه هجوماً على المسيح نفسه؟ أم أنه احتكار للهوية المسيحية لتقتصر على المنتمين إلى واحد من الحزبين المسيحيين الأقوى على الساحة السياسية اليوم؟