‎انتبه أهل القضاء فجأة إلى أنّهم يمثلون سُلطة مستقلة وليسوا موظفين لدى أحد. ضرب القضاة أرجلهم في الأرض ورفعوا الصوت ضد الانتقاص من سلطتهم والتطاول عليها، مطالبين بتصنيفهم «خارج عداد الموظفين». لن يمرّ ما يمسّ مكاسبهم في مشروع قانون سلسلة الرتب والرواتب، عبارة قالوها بصوتٍ واحد.
عطّلوا المرفق العدلي وهدّدوا بالتصعيد. ٥٥٠ قاضياً وقفوا صفّاً واحداً ضد التدخل السياسي لـ«النيل من حقوقهم المكتسبة». هكذا وصلت موسى «التقشّف» إلى صندوق تعاضد القضاة والعطلة القضائية ورواتب القضاة. وهذه خطوط حُمر لا يحتمل أهل العدالة أن تُمسّ، ولا سيما أنّ قطع الأرزاق من قطع الأعناق. لكن المفارقة أنّه لم يسبق أن رفّ جفن السلطة القضائية المستقلة في مواجهة إمعان الساسة في اغتصابها، إلا عندما وصل الاغتصاب الى المكاسب، سواء في مسألة التدخّل في الملفات القضائية أو مسألة تعيين نصف أعضاء مجلس القضاء الأعلى أو في تشكيلات القضاة أو حتى في المظلة السياسية لحماية الفاسد من المرتكبين بين القضاة، وإن كانوا قلّة.

أداء بعض القضاة لم يدل يوماً على أنهم أصحاب سلطة

يحظى القضاة برواتب ١٦ شهراً في السنة (ضمناً المنحة التي يحصلون عليها كل ثلاثة أشهر البالغة ٤ ملايين وستماية ألف ليرة، من دون متممات الراتب). كما يحظون بتغطية صحية مئة في المئة. وبتغطية كلفة تعليم أبنائهم مئة في المئة، رغم تحديد سقف لمنحة التعليم يبلغ سبعة ملايين ليرة، إلا أن الباقي يدفع على شكل منحة للقاضي. لا شك أن هذه حقوق مكتسبة لا يجدر المسّ بها، وهي تمثل عنصراً مهماً من عناصر تحصين القاضي لأداء واجبه في إحقاق العدل... إلا أن تصرفات بعض القضاة والشبهات التي تحيط بهم جعلت شريحة واسعة من الناس غير متعاطفة مع انتفاضتهم، فقضاة كثر لا يداومون سوى يومين أو ثلاثة في الأسبوع، وعدد كبير منهم يهمل القضايا المطروحة أمامهم ويتأخرون في بتّ الملفات في معظم المحاكم لسنوات وسنوات. وهناك أمثلة كثيرة عن أحكام صادرة توصف بأنها «جائرة» أو تتسم بـ»محاباة» أصحاب النفوذ وتقاليد «المجاملة»... لقد ساهم بعض القضاة بتشجيع التدخّل في عمل القضاء والمحاكم، إلا أن كل ذلك لا يبرر للسلطة السياسية تجاوز مبدأ فصل السلطات والانقضاض على مكاسب القضاة ومعاقبتهم جماعياً.
يوم أمس، عاود القضاة الاجتماع، وطالبوا بأن يكون مجلس القضاء الأعلى ومجلس شورى الدولة وديوان المحاسبة هم من يحدد العطلة القضائية وموضوع صندوق التعاضد، مشددين على أن القضاء سلطة مستقلة بموجب الدستور.
‎أداء بعض القضاة لم يدل يوماً على أنهم أصحاب سلطة، لذلك كان الأجدر بالقضاة إعلان الانتفاضة والاعتكاف للمطالبة بالاستقلال عن السلطة السياسية ورفضاً لتدخلاتها لبناء صرح قضائي عادل ونزيه، عندها سيكون الدفاع عن مكتسباتهم مبرراً، ليس في قصور العدل فقط بل في المجتمع عموماً الذي يتوق الى سلطة قضائية نزيهة ومستقلة حقاً.