يبدو ان مختلف الخطوات التي تم اتخاذها منذ سنوات، لإحكام السرية على ما يجري في كواليس مسيرة البترول والغاز في لبنان، لم تعد كافية في نظر البعض، وان الحاجة اصبحت تستلزم اجراءات جديدة أشد ضبابية. هذا ما يستدل من التدابير التي أعلن عنها مؤخرا، خاصة خلال ورشة العمل حول «النظام الضريبي للنفط والغاز» التي نظمتها في 17 شباط الماضي لجنة الأشغال العامة والنقل والطاقة والمياه في المجلس النيابي.
وفي طليعة التدابير الجديدة المقترحة تلك التي تغطيها بنود تضاف الى مسودة القانون المذكور، تحت عنوان «تحفيز الاستثمار وعمل الشركات صاحبة الحقوق وتعزيز تنافسية القطاع البترولي اللبناني».
وان كانت ضرورة تحفيز الاستثمار وتأمين تنافسية القطاع المذكور من البديهيات، فثمة علامات استفهام كبيرة مطروحة حول مبررات تدابير من نوع مختلف تم الاعلان عنها، أهمها «السماح للشركات المؤهلة مسبقا بتأسيس شركات مغفلة مملوكة بالكامل من غير اللبنانيين». يضاف الى هذا السماح «إعفاء» نفس الشركات المؤهلة مسبقا من المادة 78 من قانون التجارة، علاوة على تسهيلات واعفاءات اخرى بعيدة كل البعد عن المصلحة العامة وعن «تنافسية القطاع البترولي». خصوصاً ان المادة 78 المذكورة تقضي بأن «تخضع لقانون التجارة واعرافها كل شركة مغفلة ايا كان موضوعها»، وانه «يجب ان يكون لجميع الشركات المغفلة المؤسسة في لبنان مركز رئيسي في الاراضي اللبنانية وتكون هذه الشركات حكما، رغم كل نص مخالف، من الجنسية اللبنانية». اخيرا تنص المادة نفسها على انه «يجب ان يكون ثلث رأسمال الشركات المغفلة التي يكون موضوعها استثمار مصلحة عامة أسهما اسمية لمساهمين لبنانيين ولا يصح التفرغ من هذه الأسهم بأية صفة كانت الا لمساهمين لبنانيين، وذلك تحت طائلة البطلان».
هذا كله يطرح بالطبع عدة اسئلة حول اسباب اعفاء الشركات المؤهلة مسبقا للحصول على حقوق استكشاف وانتاج بترول في لبنان، من احكام المادة 78 المذكورة من قانون التجارة، والسماح لها بتأسيس شركات مغفلة يملكها كليا اشخاص من غير اللبنانيين، ويكون مقرها خارج لبنان!.. في حين ان المنطق يقضي بعكس ذلك تماما، أي تشجيع الشركات المعنية، لا بل إلزامها باتخاذ لبنان مقرا لها ولبننة رأسمالها وكوادرها قدر المستطاع!... اسئلة اخرى تتبادر الى الذهن حول العلاقة بين هذا الاعفاء، من جهة، و»تحفيز الاستثمارات»، من جهة ثانية، وحول مبررات السماح لانتقال رأسمال افراد لبنانيين الى شركات مغفلة مملوكة لاطراف اخرى مخفية تحت غطاء شركات مغفلة اجنبية في الخارج، الخ...
في انتظار الأجوبة على هذه الاسئلة، يجدر التذكير بان بعض ما يسمى شركات مؤهلة سبق وحصلت رسميا على تأهيل مسبق بموجب المرسوم 9882/2013 هي شركات وهمية اسسها لبنانيون في بيروت او هونغ كونغ، الى جانب شركات اخرى ذات السجل العدلي الحافل بعمليات الفساد والملاحقات القضائية في عدد من الدول العربية. فهل يحق لهذه الشركات يا ترى ان تستفيد من «السماح» و» الإعفاء» المذكورين اعلاه بعد ان كشفت وسائل الاعلام امرها ونشرت اسماء المسؤولين عنها؟ وهل التزامن بين التدابير الجديدة، من جهة، وصدور القانون رقم 28 تاريخ 10 شباط 2017 حول «الحق في الوصول الى المعلومات»، من جهة ثانية، كان من باب الصدفة؟
اخيرا لا آخرا، لماذا هذا التشبث بالسرية حول مواضيع جوهرية من نوع شروط اتفاقيات الاستكشاف والانتاج التي تنص عليها المادة 35 من نموذج الـEPA، تحت عنوان «الالتزام بالسرية»؟ او حتى حول هوية طالبي حقوق الاستكشاف والانتاج، والروابط في ما بينهم، كما تؤكد المادة 6 من دفتر الشروط تحت عنوان «سرية الطلبات»؟
هذه كلها اسئلة جديدة تضاف الى سؤال جوهري جديد/ قديم آخر، الا وهو: ما هي طبيعة نظام الاستثمار المزمع تطبيقه لانتاج البترول والغاز في لبنان؟ اذا طرح مثل هذا السؤال بالنسبة لأي بلد آخر في العالم، او بالنسبة لأي اتفاق معروف لانتاج البترول او الغاز، فلا شك ان الجواب لن يحتاج الى أكثر من دقيقة. هذا اللهم اذا كان المجيب يعرف عما يتكلم ويعني ما يقول. وذلك لان أنظمة استثمار الموارد البترولية والغازية معروفة ولها قواعد وضوابط متفق عليها، كما انها محصورة في انواع قليلة ومحدودة اهمها: 1) نظام الامتيازات الذي كان سائدا في القرن الماضي في الدول العربية وغيرها من الدول النامية، او المستعمرة، 2) نظام تقاسم الانتاج الذي بدأ في اندونيسيا عام 1965 وانتشر بسرعة في الأغلبية الساحقة من الدول المنتجة، 3) نظام عقود الخدمات الذي تشتري بموجبه الشركة الوطنية، ووفق حاجاتها، ما يلزمها من شركات مختصة اخرى، و4) نظام الاستثمار المباشر حيث توجد شركة وطنية قادرة على القيام بكل الأنشطة البترولية.
هذه كلها امور واضحة لا تحتمل التأويل او الجدل في اي بلد او بالنسبة لأي اتفاق بترولي كان خارج حدود الجمهورية اللبنانية. اما عندنا، فالامور ليست بهذه البساطة اذ ان الجواب يختلف حسب الظروف وحسب النص الذي يناسب المسؤول الذي تتحدث اليه.
من حيث النصوص اولا، من المعروف ان القانون البترولي الوحيد 132/2010 يشير صراحة الى نظام تقاسم الانتاج، من دون ذكر اي نظام او مفهوم آخر. في حين ان المرسوم التطبيقي الخاص بنموذج اتفاقيات الاستكشاف والانتاج (EPA) الذي أقر مؤخرا، والمفترض فيه مبدئيا توضيح بعض تفاصيل تطبيق القانون، فلا يأتي لا من قريب ولا من بعيد، على ذكر تقاسم الانتاج، بل يستعيض عنه بمفهوم فريد من نوعه يسميه تقاسم الأرباح، من دون اي تفسير او تبرير لذلك.
التناقض والتباين نفسهما نجدهما في وجهات نظر وتصاريح المسؤولين عن هذا القطاع. فقد ظل هؤلاء يدافعون في المرحلة الاولى عن مبدأ تقاسم الارباح، الى ان جاء مدير الوحدة الاقتصادية في هيئة ادارة قطاع البترول ليفسر في مقابلة مع جريدة «النهار» بتاريخ 17 نيسان 2015، ان نظام الاستثمار المعتمد في لبنان هو في الواقع «بين بين»، بمعنى انه «نظام وسطي، يجمع بين نظامي الامتياز والتعاقد... ويجمع محاسن النظامين» (كذا بالحرف الواحد). وظل هذا التفسير هو الغالب الى ان تغيرت الظروف وجاء المدير الحالي للهيئة نفسها ليؤكد انه لا وجود اي إشكال في الموضوع طالما ان تقاسم الانتاج وتقاسم الارباح هما اسمان للمسمى نفسه، ويؤديان الى النتائج نفسها!
اخيرا لا آخرا، اعلن وزير الطاقة الجديد في عدة مناسبات كان آخرها مداخلة خلال ورشة العمل حول «النظام الضريبي للنفط والغاز» المشار اليها اعلاه، ان «نظام الاستثمار البترولي المعتمد هو نظام عصري وشفاف يعتمد على مبدأ تقاسم الانتاج...».
وفي انتظار ان يتفق المسؤولون في ما بينهم على تسمية نظام الاستثمار المزمع تطبيقه وطبيعته، تجدر الاشارة الى نقطتين جوهريتين: الاولى هي ان المسألة ليست مسألة ألفاظ او اصطلاحات عشوائية ترمى جزافا، بل مسألة مضمون نظامين يختلفان كليا الواحد عن الآخر، خصوصاً لجهة ان نظام تقاسم الانتاج يقوم على حق ملكية الدولة لكل ما يتم اكتشافه من البترول والغاز، وعلى مشاركة الدولة الفعلية، عبر شركة نفط وطنية، في كل مراحل الأنشطة البترولية. اما مفهوم تقاسم الارباح المبتكر، فيعني عمليا عكس ذلك والعودة المقنعة لنظام الامتيازات القديمة. اما النقطة الجوهرية الثانية فهي ان ما يسهل على البعض التلاعب بالألفاظ هو ان مرسوم الـEPA يشير بالفعل في المادة 24 الى تقاسم بترول الربح بشكل يضمن للدولة في المرحلة الاولى حق الحصول على 30% من بترول او غاز الربح هذا، وذلك نقدا او عينا. هذا الواقع يعني بتعبير آخر ان قسما مما يعود للدولة يتم تسديده نقدا او عينا عن طريق تسليم جزء مما تنتجه الشركة العاملة، ويقتطع من الارباح الخاضعة للضريبة، لكنه لا يعني بشكل من الاشكال ان النظام المطبق هو نظام تقاسم الانتاج المعروف في مختلف انحاء العالم. اضافة الى ذلك، لا بد من التذكير بأن نظام الامتيازات القديمة كان هو ايضا يتضمن حق حصول البلد المضيف على إتاوة 12.5% من قيمة الانتاج تسددها الشركة العاملة نقدا او عينا. إلا ان احدا لم يفكر قبل اليوم بالقول ان تسديد الإتاوة عينا يعني ان نظام الامتيازات القديمة كان ايضا نظام تقاسم انتاج!...
ومهما كانت الاهداف والنوايا وراء هذا الجدل المضلل، فالمهم هو ان مرسوم الـEPA يقصي الدولة كليا وصراحة في المادة رقم 5 عن الأنشطة البترولية، وعن امكانية القيام بتدقيق فعلي ومباشر لنفقات وواردات وارباح الشركات العاملة، لتحل محلها مصالح خاصة تمثلها شركات وهمية او مشبوهة يفضل الآن بعض ذوي الشأن تنكرها بلباس شركات مغفلة، وتهجيرها الى ما وراء الحدود، بعيدا عن نظر اللبنانيين وسمعهم. وهكذا تكتمل الحلقة ويصبج من شبه المستحيل على هؤلاء معرفة ليس فقط شروط استثمار ثروتهم الموعودة وهوية من تولى صياغة هذه الشروط، بل ايضا هوية المستفيدين من «اصحاب الحقوق» والتفاهمات في ما بينهم. هذا التضليل غير المسبوق هدفه تحويل اللبناني الى اشبه ما يكون الى «أطرش في الزفة»!
اما مهمة تدقيق ارباح الشركات العاملة، فقد رأى المسؤولون ان ابسط واسهل حل لها، هو تجييرها الى وزارة الطاقة وهيئة البترول لجهة الواردات، ولوزارة المال لجهة النفقات، وكأن الموضوع لا يختلف عن مراقبة حسابات أقرب سوبرماركت في الحي! وفي حال بقيت الاوضاع على ما هي، فمن الموائم القول ان الخوف كل الخوف هو ان نصبح اضحوكة للعالم...
هذا التعاطي مع قضية وطنية بحجم قضية البترول والغاز ليس له مثيل في أي بلد آخر، لا من حيث مدى الاستباحة بأهم ثروة موعودة في لبنان، ولا من حيث الحد الادنى الذي يفرضه احترام حقوق اللبنانيين ومستقبلهم وكرامتهم.