يقال إن الانسان لا يختفي بموته، بل يموت حقّاً حين يرحل آخر الذين عرفوه وأحبّوه، فلا يبقى من يستحضره ويتذكّره. جوزف سماحه (1949 ـــ 25 شباط 2007) بمنأى عن هذا «الموت»، هو الذي أسس، مع إبراهيم الأمين، جريدة «الأخبار»، في انطلاقتها الثانية كجريدة يوميّة العام 2006. جوزف مُلهم هذه المغامرة المستعصية على التصنيف التي ما زلنا نخوضها بالحماسة نفسها، والمثاليّة نفسها، بعد عقد على رحيله. أصدقاؤه كثر من كل الجهات والأوساط في لبنان والعالم العربي والعالم. وهو اليوم حاضر في وجدان الكثيرين ووعيهم وذاكرتهم. هناك أبناء جيله الذين عرفوه وساجلوه وتشاركوا تجاربه وعملوا أو ناضلوا إلى جانبه، بين بيروت وباريس ولندن، هؤلاء الذين رافقوا صعوده وتألّقه، وشهدوا على حضوره الفكري، وتابعوا كتاباته ونضالاته وإنجازاته المهنيّة والسياسيّة. وهناك كل الذين أتوا بعده وتأثّروا به، وتتلمذوا على يده، بشكل مباشر أو غير مباشر... لكن الزمن ماكر، علينا أن نحترس منه. خلال هذا العقد الشائك، برز جيل هو ابن مواقع التواصل الاجتماعي والأجهزة الذكيّة والثقافة البراغماتيّة. جيل تبدو له فلسطين فكرة جميلة مجرّدة، وأحياناً «مضجرة ومملّة آن تجاوزها». كثيرون من هذا الجيل يؤمنون بأن الخلاص يكون فرديّاً أو لا يكون. أو يبحثون عن طريق التغيير في مجاهل «الجمعيّات» و«المنظمات» التي تستقطبهم بـ «تدريباتها»، واغراءاتها الماديّة، و«مبادئها» السهلة الاستهلاك كوجبات الـ «فاست فود».
هؤلاء لم يعرفوا جوزف سماحة ولم يعايشوه، وربّما لم يسمعوا حتّى به. أو لعلّ بينهم من سمع بالإسم ويظنّه من أعلام نهضة بعيدة… وهناك شبان وشابات في العشرين، العمر الذي بدأ فيه جوزف حياته السياسيّة والصحافيّة، يعرفون بعض الأشياء: «آه طبعاً، أبي وأمّي يتذكرانه أحياناً». «كان صحافيّاً محترماً أيّام اليسار والعروبة، أليس كذلك؟». إفهم: قبل الطوفان! «لم يكن والدي يفوّت مقالة من مقالاته». هكذا يخشى على صديقنا من الإمحاء خلف هالة مضيئة تفرض الإعجاب الغامض، والاحترام المجرّد. يخشى أن يأتي يوم نعبر قرب الصرح فلا نراه، ونواصل طريقنا بلامبالاة في وحول الانحطاط الفكري والثقافي والسياسي والاعلامي.
يطرح السؤال نفسه: كيف تقدّم إلى هؤلاء الشباب «الرفيق جوزف سماحة» الذي نحتفي اليوم بذكرى رحيله العاشرة؟ كيف تحكي لهم الحكاية؟ حكاية رجل استثنائي، كان ليكون بطلهم وملهمهم في زمن آخر… هل تبدأ من طبخة البحص التي كانت الأرملة الشابة الفاتنة، الناصريّة الهوى، تلهي بها ولديها كي يناما؟ تلك الأم «كوراج» التي سيخيّم طيفها بقوّة على حياة جوزف. هل تبدأ من مدرسة الفرير التي لم يكن بمقدور الولد الشقي أن يدفع أقساطها، رغم عمل أخيه الأكبر «حمّالاً» في البور كي يعلّمه؟ في تلك البؤرة الفرنكوفونيّة التي بقي على صدام فكري ووجودي معها إلى النهاية، تكوّن وعي جوزف سماحة الأوّل. «وعيه الطبقي» يجب أن نحدّد، مع أن هذه المصطلحات لا تحصل على «لايكات» كثيرة...
إنّها حكاية شاب فقير، سيبقى طوال حياته وفياً لطبقة الكادحين التي انتمى إليها، وكان يمكن أن ينشأ نشأة بورجوازيّة لولا رحيل والده المبكّر. حكاية مثقف عضوي بنى حياته على مقاومة الظلم والاستغلال، ونذر قلمه للدفاع عن العدالة. كما بقيت بوصلته فلسطين، على أساسها يختار الحلفاء والخنادق والمعارك والأولويّات الوطنيّة والسياسيّة. صدمة حزيران/ يونيو 67 صنعت وعيه، وحبّه للسياسة أخذه إلى دراسة الفلسفة. المراهق الذي ترعرع في حي الأشرفيّة، سيكبر بسرعة في السبعينيات المجيدة لبيروت. أستاذه ياسين الحافظ سيترك بصمات حاسمة على وعيه. وسرعان ما سيكتشف الماركسيّة ويلتحق بـ «منظمة العمل الشيوعي» في العام 1972، ويبدأ تجربة صحافيّة أولى في مجلّة «الحريّة»، قادته بعد عامين إلى «السفير» لدى تأسيسها. عشيّة الحرب الأهليّة وجد نفسه معتقلاً مع أخيه وليد لدى مقاتلي الكتائب الذين كانت أمّه تدلق عليهم الماء من بلكونها. كان سماحة الشاب الممتشق والرياضي الذي يعشق الكرة الطائرة، قد أصبح «عدوّاً خطيراً للوطن»، يقيم في بيته اجتماعات مشبوهة، وينشر في المنطقة أوبئة اليسار والعروبة، ويهتف باسم عبد الناصر وفلسطين. على جدران الرميل والجعيتاوي كان يمكن أن تقرأ آنذاك: «لقّحوا أطفالكم ضد الشيوعيّة»!
للأسف لا بد من الاختزال، وتجاوز العائلة الصغيرة: سهيلة وولديهما أمية وزياد، والقفز فوق الذكريات: بينو قرية أمّه في عكار، وأصدقاء المراهقة، والأحلام الأولى. المرجعيّات السياسيّة الأولى أيضاً، تلك التي سرعان ما انتقلت من المحلّي إلى الأممي، لكنّها بقيت من الثوابت التي حددت خياراته ومساره الفريد.

إنّها حكاية مثقف عضوي بنى حياته على مقاومة الظلم والاستغلال، ونذر قلمه للدفاع عن العدالة، وبقيت بوصلته فلسطين

ينبغي أن نقول هنا إن حياة جوزف ستكون مجبولة بالسياسة. لا يحقق وجوده إلا عبرها، ولا يطيب له عيش إلا من خلال مسائلها وقضاياها وصراعاتها الكبرى. لم يكن جسده هو الذي يؤلمه، بل الحقوق القومية المهدورة، حتّى خانه القلب تلك الليلة في وحشة لندن من دون أن يلاحظ. لم تكن احلامه فرديّة، بل مقترنة بنضالات «الشعب المسكين» من أجل العدالة. لم تصبح اللغة الفرنسيّة المفروضة عليه في ملعب مدرسة «الفرير»، أداة تواصله، رغم تمكنه منها وثقافته الواسعة، بل حفر مشروعه في صميم اللغة العربيّة التي انحاز لها ثقافيّاً وسياسيّاً ووجوديّاً. لاحقاً، في لحظات النشوة والفرح سيتحصّن خلف الطرب والموسيقى الأصيلة ليداوي كل الحزن العالق في أعماقه. يُجمع كل من عرف جوزف وعاشره عن قرب، على أن هناك أمرين فقط كان بوسعهما انتزاع الرجل الطويل، القليل الكلام، من كآبته المزمنة وصمته وانطوائه وإطراقه. سهرات الأنس والطرب والشرب… والكلام في السياسة! حديث السياسة كان هو نفسه، من السهرات الليليّة والصالونات والمقاهي، إلى الحلقات الحزبيّة مروراً باجتماعات التحرير في محتلف الصحف والمجلات التي عمل فيها، أو تولّى قيادتها.
بعد عودته النهائيّة من لندن في العام 2000، رجع جوزف للسكن في الحيّ الذي هرب منه شاباً. كانت الحرب الأهليّة بصيغتها القديمة قد انتهت، ومهّد الطائف للحريريّة الاقتصاديّة التي وقف سماحة ضدّها وساجلها، محتفظاً بعلاقة احترام متبادلة مع رفيق الحريري. ذات يوم صعد جوزف شارع مونو باتجاه عبد الوهاب الانكليزي، حام حول بيت طفولته الذي باعه أخوه لاحقاً لمحتلّيه، في عزّ الحرب، تحت وطأة الحاجة، بـ… 75 ألف ليرة! دق باب الطابق الأرضي. جاره القديم الذي كان لا يزال مقيماً هنا، استقبله بحرارة. كان يحتفظ له بمجموعة من اللوحات، غلّفها بعناية بورق الجرائد التي تعود للسبعينيات، كما ليخفي محتواها «الآثم» عن رجال الميليشيا. كان بينها لوحة تمثّل القدس، وأخرى بريشة غسان كنفاني، إلى جانب أعمال أخرى علّقها في شقّته الجديدة شارع فيكتور هوغو فعاشت حياة جديدة. اليوم في مكان البيت البيروتي القديم ذي القرميد الأحمر، انتصب برج عملاق من الشقق العصريّة الفخمة. يا لسخرية القدر! لقد مرّ مسخ الإعمار فوق ذكريات جوزف، في هذه المدينة التي لم تعد لأهلها، ولن يبقى لأبناء الطبقات الدنيا والوسطى فيها أين يسندون رأسهم.
عشيّة الحرب، تركت العائلة بيتها والتجأت الى بيروت «الغربيّة». في المدينة الأمميّة التي كانت عاصمة لحركات التحرر، تكرّست مسيرة جوزف سماحة منتصف السبعينيات، بعد الخروج من «الغيتو الانعزالي». هذا المصطلح لعلّه أحد مخترعيه ومكرّسيه، لحصر ظاهرة القوى اليمينية المسيحية التي استقالت من التاريخ، وتقوقعت على نفسها، وباعت روحها للشيطان، متوهّمة أنها سوف تحمي وجودها بهذه الطريقة. الكلام هنا أيضاً قد يبدو لبعضهم «قديماً»، في زمن لم نعد نفرّق فيه بين الانعزالي والتقدّمي. قد تكون الكلمات فٌرّغت من نسغها، لكن حقيقة الصراع لم تتغيّر: ضدّ الاستعمار بأشكاله الجديدة، وضدّ الاحتلال، وضد الطغم السياسيّة والماليّة المهيمنة التي ازدادت وحشيّة وتواصل قضم مساحات الوطن وثرواته. يكفي أن نتابع اليوم، لحظة كتابة هذه السطور، نقاشات الحكومة اللبنانيّة حول الموازنة والضرائب، ومناورات المصارف وأرباب العمل لإلقاء الأعباء كلّها على كاهل شعب تائه، يتخبّط بين الخنادق الفئوية الضيّقة. في هذه الدوامة يحلو للمرء أن يستنجد بجوزف سماحة، بمواقفه وأفكاره وكتاباته. في قلب الكابوس العربي أيضاً والدوامة التي تلفّ المنطقة، نستنجد أيضاً بجوزف كل صباح، لنتلمّس طريقنا داخل صراع مصيري معقّد، يحاول الخطاب المهيمن اختزاله وتزويره.
في بيروت «الغربيّة» في قلب الحرب، حين بدأ نجمه يصعد (كم كان الآن ليستهجن هذه العبارة)، بدا الصراع أكثر وضوحاً بالنسبة إلى جوزف ورفاقه. والقضيّة العربيّة تتقاطع مع مشاريع العدالة والعلمنة والحريّة. كان ذلك أيّام «الحركة الوطنيّة» و«المقاومة الفلسطينيّة»، كمال جنبلاط وياسر عرفات والآخرين. في العام 1977 دخل إلى اللجنة المركزية لـ «منظمة العمل الشيوعي»، ثم صار مسؤول الإعلام المركزي للمنظمة. وكان اسم جوزف سماحة قد ترسّخ في «السفير» حين غادرها عام 1978 ليصبح، في السابعة والعشرين، رئيس تحرير جريدة «الوطن» الناطقة باسم «الحركة الوطنية اللبنانية» التي وصل توزيعها حينذاك إلى عشرات آلاف النسخ. في العام 1980 عاد مجدداً إلى «السفير». كان دائماً يتركها ويعود إليها، إلى أن جاءت «الأخبار» لتكون نقطة اللارجوع… في «السفير» عاش السنوات الحاسمة، مع طلال سلمان ورفاق أساسيين تفاوتت مصائرهم، بينهم ناجي العلي. الاجتياح الاسرائيلي الثاني للبنان العام 1982، وحصار بيروت، ودخول الصهاينة إليها ثم هروبهم منها، ثم خروج المقاومة الفلسطينيّة، واغتيال بشير الجميّل، ومجازر صبرا وشاتيلا، وولادة المقاومة الوطنيّة، وصولاً إلى «انتفاضة 6 شباط 1984»… هنا حان موعد قطيعة جديدة مع «السفير». حزم حقائبه ميمماً شطر باريس التي سبق أن أمضى فيها فترة دراسيّة.
في باريس كانت ولادته الثانية، فكريّاً ومهنيّاً. تلك أيّام مجلّة «اليوم السابع» التي أسسها مع بلال الحسن وخاضت مع مجموعة من الصحافيين والصحافيّات العرب، مغرباً ومشرقاً، تجربة رائدة في الصحافة العربيّة، السياسيّة والثقافيّة، تحت راية القضيّة الفلسطينيّة. فيها كتب إميل حبيبي بعض أجمل نصوصه الأخيرة. وفيها نشرت مراسلات محمود درويش وسميح القاسم، وحوار المشرق والمغرب بين محمد عابد الجابري وحسن حنفي. وفيها كتب سماحة زاويته الشهيرة «بلا ضفاف». عاش باريس حتّى الثمالة. كانت مرحلة اعادات النظر، وبلورة نظريّاته السياسيّة، والاحتكاك المباشر مع الغرب، بحياته الفكريّة والسياسيّة وتجاربه الاعلاميّة المختلفة في مرحلة تحوّلات مهنيّة وسياسيّة. كانت مرحلة إلتهام الكتب، والتعمّق في اعادة فهم العالم العربي، ومراجعة تاريخ صراعات العالم الثالث ضد الاستعمار، ومساجلة العولمة، والتعمق في دراسة الحركات الاسلاميّة، ورصد ارتداد بعض النخب اليساريّة في فرنسا وأوروبا، في عهد ميتران، وعودتهم إلى حضن الليبراليّة والتخلي عن الوعي العالمثالثي والتعاطف مع إسرائيل. إنّها السنوات التي سبقت «أوسلو» ومهّدت لها… ولعلّ مرحلة «اختبار السلام» تلك، بنتائجها الكارثيّة التي نعرف، أعادت ترسيخ تلك القناعة التي لم تفارق سماحة أصلاً، بأن اسرائيل بسياساتها العنصريّة وبعقيدتها الاستيطانيّة التوسعية وبطبيعتها السبارطيّة، وتحصّنها خلف مصالح الغرب الاستعماريّة، لا تفهم إلا لغة واحدة: لغة المقاومة المسلّحة.
كان جوزف بحاراً، يتعب من المدن. بعد أن ابتلعت «أوسلو» مجلة «اليوم السابع» (1991)، عاش فترة تأمّل ورصد، مع بداية الغزو الأميركي للعراق. وعمل في «الحياة» من باريس، كاتباً ومحللاً سياسيّاً. وألف كتاباً يبني على اخفاقات أوسلو بعنوان: «سلام عابر: نحو حلّ عربي للمسألة اليهوديّة» («دار النهار» في مرحلة اشراف سمير قصير عليها ـــ 1993). يستشرف الكتاب ارهاصات الخروج من السلام (الأميركي ـــ الاسرائيلي) المفروض على العرب. ويرى أن آفاق الخلاص في قيام مشروع نهضة عربيّة جديدة، عبر أوسع جبهة ممكنة. في العام نفسه، وكان لا يزال مقيماً في باريس، صدم برحيل صديقه السينمائي مارون بغداي الذي سقط سهواً في بيروت الغارقة في أوهام «إعادة الإعمار». كان قد عاد مارون لتصوير فيلم عن «المسامحة» قيد الكتابة مع حسن داوود، فوجد ميتاً في قفص درج عمارته في الأشرفيّة. ورغم ذلك، بل ربّما بسببه، قرر جوزف الاستجابة لنداء بيروت، المدينة التي لم تغادره يوماً. كانت بيروت دخلت عصر الحريريّة، و«السفير» تبحث عن روح جديدة. فشرّع صفحاتها لجيل جديد من الصحافيين الشباب الذين صاروا اليوم جزءاً أساسيّاً من المشهد الاعلامي. في تلك الفترة كتب مقالته الشهيرة التي يقارن فيها بين رفيق الحريري وزياد الرحباني. وكتب سمير قصير مرحّباً بأستاذه وصديقه في مجلّة الـ«أورينت أكسبرس» الشهريّة الفرنكوفونيّة التي كان يرأس تحريرها ما مؤداه: عاد جوزف سماحة ليرفع مستوى التحدّي، على مستوى الحياة الاعلاميّة والسياسيّة في بيروت (نوفمبر 1995). لكن التجربة لم تكتمل، وسرعان ما ضاقت به المدينة، بل المرحلة، فحزم حقائبه مجدداً. لنقل إنّها البروفة الأخيرة قبل العودة النهائيّة إلى مدينته العام ألفين.
هجرته الأخيرة ستكون إلى لندن. كان قد حصل على محاضر التحقيق المرتجل والذي تعتريه مناطق ظل، في موت مارون بغدادي، فاستوحى منها، خلال عشرين يوماً، كتاباً بعنوان «قضاء لا قدر: في أخلاق الجمهوريّة الثانية» («دار الجديد» ـــ 1996). ينطلق الكتاب من فرضية «القتل» الرمزي للسينمائي على يد الحريريّة الساعية إلى احتوائه واحتواء وجوه كثيرة من اليسار اللبناني، وينتهي بمحاكمة هذا اليسار في عزّ الاستقالات والتنازلات. في لندن عمل مسؤولاً عن «الدائرة السياسيّة» في جريدة «الحياة». وهو منصب على قياسه لم يكن له وجود قبله، ولم يستمر بعده. في هذه الجريدة نشر سلسلة تحقيقات نادرة مع مجاهدي المقاومة الاسلاميّة في جنوب لبنان، كان ذلك قبل تحرير الجنوب في ٢٢ أيار/ مايو 2000. بدا موقف جوزف السياسي حاسماً منذ أوّل التسعينيات، وربّما قبلها: لا يمكن إلا الوقوف إلى جانب حزب الله، في خندق المقاومة. تلميذ ياسين الحافظ، والمثقف الناصري اليساري الذي زاوج بين الخيار الماركسي والوعي القومي، فهم مبكّراً أنه بعد غرق العمل الفدائي في فخ «أوسلو» الذي قضى على ياسر عرفات نفسه، ليس من خيار صائب خارج المقاومة… فالبوصلة كانت وتبقى فلسطين.
في العام ألفين كان قد استقرّ نهائيّاً في بيروت، وعمل رئيساً لمكتب «الحياة» فيها بعد توسّعه وانتقال جزء أساسي من فريق «الحياة» التحريري إلى بيروت… لكن «حبّه الأوّل» استعاده، فإذا به رئيس تحرير جريدة «السفير» مرّة أخيرة. حين سيتسلل منها العام 2006، ويجتاز شارع منيمنة صعوداً إلى مبنى الكونكورد المجاور، سيكون ذلك لتحقيق حلمه المهني، ومحاولة التعويض عن كل خيباته. باقي الحكاية يعرفها الجميع: ترك جوزف «السفير» من جديد، ليدخل مع صديقه ورفيق مرحلته الأخصب إبراهيم الأمين، وبعض أصدقائهما في مغامرة جديدة، أكثر طموحاً، وأكثر راديكاليّة من سابقاتها: إطلاق جريدة يوميّة عربيّة من بيروت، تأخذ أفضل ما توصّلت إليه الصحافة اللبنانيّة، وتنطلق منه في اتجاه تأسيس مشروع عربي طليعي، شبابي وعصري ونقدي، في خندق الممانعة. مشروع يعتبر منعطفاً في مسار الصحافة اللبنانيّة لجهة الشكل والمضمون واللغة والأسلوب والخيار الراديكالي، ونمط الانتاج الذي يقطع مع النموذج البطريركي.

مع إبراهيم الأمين، أطلق جريدة راديكاليّة تأخذ أفضل ما توصّلت إليه الصحافة اللبنانيّة، لبناء مشروع عربي نقدي ومغاير

في افتتاحيّته الأولى «توقيت صائب»، رسم جوزف خريطة الطريق: «ندرك أنها مغامرة، غير أنها مغامرة محسوبة. (ونعلن) أننا ننتمي، سياسياً، إلى معسكر رافضي الهيمنة، وهو معسكر يمتدّ من قلب الولايات المتحدة الأميركية إلى أقاصي الشرق وأفريقيا وأميركا الجنوبية وأوروبا، (ونعلن) أيضاً أننا ننتمي، مهنياً، إلى معسكر الحرص على التعددية والديموقراطية والموضوعية والحداثة والثقافة الإبداعية» (14/ 8/ 2006). الأعداد الصفر لـ «الأخبار» ظهرت على وقع هدير الطيران الإسرائيلي، صيف 2006. والعدد الأوّل في يوم النصر. الحملات الشرسة التي تعرّضت لها «الأخبار» قبل صدورها، في وضع لبناني متوتّر ومعقّد دخل انقسامه الحاد، مع تفشّي الطاعون المذهبي، أثّرت في جوزف كثيراً. ويعتقد بعض أصدقائه المقرّبين أن هذا التوتّر العالي، هو الذي خطفه من أهله ورفاقه وقرائه، بعد ستة أشهر فقط من تحقق حلمه الأخير بإصدار «الأخبار». ولحظة كتابة هذه السطور، بعد عقد بالتمام والكمال على رحيله في لندن التي قصدها مؤاسياً صديقه اللدود حازم صاغيّة على رحيل رفيقة دربه مي غصوب، لا يسعنا إلا أن نقيس المسافة التي تفصلنا عن تلك اللحظات البطوليّة. مسافة تغيّر فيها الكثير، وازداد العالم العربي تفككاً، وغرغرينا التأسلم استشراءً، والغرب الاستعماري تمكناً من قراراتنا ومقدراتنا. لقد عبرنا بصعوبة وألم امتحان «الربيع العربي» المسروق الذي استحال كابوساً عظيماً، وها هو يهدد مجتمعاتنا بالتفتت والتخلّف، وما زالت المغامرة مستمرّة، والتحدي كاملاً. نواصل طريقنا اليوم على الدرب التي شقّها سماحة، وهو المدافع بقوّة عن صحافة الرأي الرائدة التي لا يقلّل الالتزام من مهنيّتها وانفتاحها واستقلاليتها وطليعيتها…
في ثلاثينياته، انسحب جوزف سماحة نهائيّاً من العمل الحزبي، وانصرف إلى الكتابة والصحافة. هذا كان مجاله النضالي. لكن هناك فكرة بقيت تراوده، خصوصاً بعد العودة النهائيّة من لندن: تجديد اليسار، واعادة تأسيس حركة أو تيّار يساري معاصر يتسع للشباب ويعيد اختراع العمل السياسي والمطلبي. كان الرجل يكتب بإلتزام المناضلين، ومهنيّة المحترفين، وعقلانيّة المثقفين الذين يمتلكون رؤيا شاملة لأشكال الصراع وعناصره ومكوّناته. عاش جوزف ومات في خط معاداة الاستعمار، وضرورة النضال بالوسائل المختلفة، من أجل استعادة الحقوق الوطنيّة والقوميّة المسلوبة. واليوم نتشبّث بسيرته وفكره وتركته وجريدته، وسط هذا الخواء، حيث الفرد العربي مخيّر بين أشكال مختلفة من الانهيار والتبعيّة والاستبداد والموت.
(الأخبار)