طرح رئيس الجمهورية ميشال عون، إجراء استفتاء من أجل حل اشكالية قانون الانتخابات. ولا شك ان هذا الأمر يُعتبر خطوة جريئة تساعدنا على إعادة النظر في طريقة عمل نظامنا السياسي واستنباط طرق جديدة لحل الشلل الدائم الذي يضرب المؤسسات الدستورية عند كل أزمة سياسية.
لكن السؤال الأهم، وبغض النظر عن هدف هذا الطرح النبيل، هو تحديد ما إذا كان نظامنا الدستوري يسمح بذلك؟ للإجابة على هذا السؤال، لابد لنا من مقدمة نظرية تتعلق بمفهوم السيادة وفقا للقانون الدستوري من ثم معالجة الاشكالية التي تشغلنا.
يتبنى الدستور اللبناني النظام البرلماني التقليدي ويتجلى هذا الأمر بشكل بارز في المادة 27 منه التي تنص على أن "عضو مجلس النواب يمثل الأمة جمعاء ولا يجوز أن تربط وكالته بقيد أو شرط من قبل منتخبيه". الهدف إذاً من المادة 27 هو تكريس مبدأ السيادة الوطنية (souveraineté nationale) وما يستتبعه ذلك من فكرة محددة عن الديموقراطية كديموقراطية تمثيلية (Démocratie représentative). فالنظام الديموقراطي المعمول به في دول العالم اليوم ينطلق من مسلمة جوهرية تقول بأن الشعب لا يحق له أن يسن القوانين بنفسه وهو في مطلق الأحوال لا يستطيع أن يمارس السلطة التشريعية إلا عبر ممثلين ينتخبهم لهذه المهمة. ففي عصرنا الحالي أصبح من المتعذر ممارسة الديموقراطية المباشرة التي كانت سائدة في اليونان القديمة حيث يجتمع كل المواطنين في الساحة العامة (Agora) ويقومون بمناقشة القوانين والتصويت عليها مباشرة. وفي العصر الحديث أصبح من الضروري التوفيق بين مبدأ الانتخابات من جهة وفكرة الديموقراطية من جهة ثانية. ولشرعنة سلطة النواب الذين غالبا ما يتم انتخابهم عن دوائر متعددة وتحويلهم من مجرد ممثلين لأقاليم جغرافية إلى سلطة قائمة بذاتها، تم اختراع مبدأ السيادة الوطنية بحيث لا يمثل النائب الشعب (أو الفئة من الشعب التي انتخبته) بل الأمة جمعاء.
هكذا نستطيع أن نفسر الجزء الثاني من المادة 27 التي تشدد على أن النائب لا يجوز أن تُربط وكالته بقيد أو شرط. والهدف من وراء ذلك هو الحرص على أن النائب، وبما أنه يمثل الأمة، لا يحق لمنتخبيه أن يملوا عليه توجهاتهم أو أن يتدخلوا في خياراته السياسية. وهذا ما نستشفه أيضا من الفقرة "د" من مقدمة الدستور التي تنص على أن "الشعب مصدر السلطات وصاحب السيادة يمارسها عبر المؤسسات الدستورية". فالشعب لا يمارس السيادة إلا عبر ممثليه في السلطتين التشريعية والتنفيذية.
وقد رفض جان جاك روسو في كتابه "العقد الاجتماعي" فكرة السيادة الوطنية، وقال بمبدأ السيادة الشعبية (souveraineté populaire). فالشعب في منظومة روسو الفكرية لا يحكم نفسه عبر ممثلين ينتخبهم ويفوضهم شؤون الأمة، إذ أن السيادة لا يمكن تفويضها والإرادة العامة (volonté générale) لا تقبل التمثيل. وكنه هذه النظرية هو رفض وجود ممثلين مستقلين عن الشعب. فالنائب في مثل هذه الحالة يمثل فقط الشريحة التي انتخبته من المواطنين ويجب عليه في مطلق الأحوال أن يمتثل لأوامر وتوجيهات هؤلاء في كل قرار سياسي يتخذه.
لاقت أفكار روسو انتشارا واسعاً، ولما بات من الضروري تكوين شرعية تستطيع أن تقف بوجه السلطة الملكية طوّر سياس (Sieyes) خلال الفترة التي سبقت الثورة الفرنسية مبدأ السيادة الوطنية (أو سيادة الأمة بتعبير أدق) الذي يتبنى مبدأ الديموقراطية التمثيلية. فالنائب المنتخب يستمد سلطانه من الأمة حتى لو كان فعليا منتخبا من قبل مجموعة صغيرة من المواطنين في دائرته الانتخابية. والأمة هنا هي مجرد اختراع قانوني إذ لا يمكن لها أن تحكم بنفسها بل يجب أن يتم تمثيلها عبر نواب. هذا مع العلم أن اختيار النواب عبر الاقتراع العام ليس شرطا لتمثيل الأمة بل يجوز أن يتم تمثيلها عبر وسائل أخرى.
ويظهر الاختلاف بين السيادة الوطنية والسيادة الشعبية بشكل أساسي في طبيعة الاقتراع. فقيام المواطن بالاقتراع هو حق له فقط في النظام القائم على مبدأ السيادة الشعبية كون كل فرد من الشعب يملك جزءا من السيادة، بينما الاقتراع في النظم التي تتبنى مبدأ السيادة الوطنية هو وظيفة يقوم بها الفرد باسم الأمة وتلك الوظيفة يحددها الدستور الذي يستطيع أن يمنحها كيفما شاء، إما لكل المواطنين أو فقط لشريحة منهم مهما قل عددها.
جراء ما تقدم، وبما أن النظام اللبناني قائم على مفهوم السيادة الوطنية، ولمّا كان الدستور هو الذي يحدد من يملك السلطة التشريعية في البلاد، وبما أن الدستور أناط في المادة 16 منه السلطة التشريعية بمجلس النواب وحده فقط (وبالتالي يكون قد منع على أي جهة أخرى في لبنان من ممارسة تلك الصلاحية)، إذن نستطيع أن نؤكد أن إجراء استفتاء يتمتع بمفاعيل تشريعية في لبنان هو غير جائز دون نص دستوري صريح يتيح ذلك.
وحقيقة الأمر أن كل الدساتير المكتوبة في العالم إذا ما أريد اعتماد الاستفتاء كوسيلة للتشريع قائمة على الديموقراطية المباشرة تنص على ذلك صراحة في متنها. وأبرز مثال على ذلك دستور المجمهورية الخامسة في فرنسا الذي يسمح في المادة 11 منه لرئيس الجمهورية ضمن شروط معينة بطرح مشروع قانون على الاستفتاء العام. فالدستور هو الذي يقر مبدأ الاستفتاء وهو الذي يسمح بإعطاء النص الذي وافق عليه الشعب قيمته القانونية. وعلاوة على ذلك، إن القانون الذي يقرّ عبر الاستفتاء لا يتمتع بأي قيمة دستورية أعلى من سائر القوانين العادية التي تقرها السلطة التشريعية، وعليه يحق لاحقا لهذه الأخيرة من الناحية الدستورية تعديل القانون الذي جرى إقراره عبر الاستفتاء.
ومن الأمثلة المعروفة في القانون الدستوري، النظام البريطاني الذي يقوم على مبدأ سيادة البرلمان. فالمملكة المتحدة لا يوجد فيها دستور مكتوب، وفقاً للتعريف الشكلي للدساتير، والقانون الذي يقرّه البرلمان وتصدره الملكة يحتل رأس هرمية النصوص إذ هوة يعبّر عن أعلى سلطة في البلاد. لذلك، نفهم لماذا أنّ كل استفتاء جرى في بريطانيا تم اجازته مسبقا بقانون، أي أن البرلمان أقرّ قانونا يسمح به، وذلك منذ أول استفتاء عرفته المملكة المتحدة سنة 1975 عندما وافق البرلمان على هذا الاجراء الجديد عندما أقرّ "قانون الاستفتاء لسنة 1975" (Referendum Act 1975)، وصولاً إلى الاستفتاء الأخير حول الخروج من الاتحاد الأوروبي والذي أجازه البرلمان سنة 2015 أيضاً بقانون (European Union Referendum Act 2015). علماً بأن نتائج الاستفتاء هي غير ملزمة (Non Binding) من الناحية القانونية إلا إذا نصّ القانون على ذلك عملاً بمبدأ سيادة البرلمان الذي يحق له من الناحية النظرية اتخاذ أي خطوة يجدها مناسبة بغض النظر عن نتيجة التصويت. وهذا ما يفسر لنا لماذا اضطرت الحكومة البريطانية إلى الحصول على موافقة البرلمان من أجل اطلاق آلية الخروج من الاتحاد الأوروبي.
إذا كان الدستور في لبنان لا يسمح بإجراء استفتاء ملزم، هل نستطيع أن نقول أن مجلس النواب يحق له اقرار قانون يسمح بإجراء تنظيم استفتاء في لبنان؟ الجواب: كلا، لأن هذا الأمر يستتبع تنازل مجلس النواب عن سلطته التشريعية وتفويضها لجهة أخرى، وهذا لا يجوز دون نص دستوري صريح يسمح لمجل النواب بذلك. وقد أكد المجلس الدستوري في قراره رقم 1 تاريخ 31/1/2002 على هذا الأمر، فأعلن أن "مبدأ سمو الدستور الذي ينجم عنه أن على كل سلطة عامة أنشأها الدستور أن تمارس اختصاصها المحجوز لها في أحكامه بنفسها وأنه لا يجوز لها أن تفوض سلطة أخرى في ممارسة هذا الاختصاص إلا إذا سمح الدستور بهذا التفويص بموجب نص صريح". وبالتالي لا يحق لمجلس النواب إقرار قانون يسمح باجراء استفتاء تشريعي ملزم لأن ذلك يؤدي إلى تخلي هذا الأخير عن صلاحياته (وهذا ما لا وجود له في الدستور).
خلاصة البحث:
1 ــ لا يجوز إجراء استفتاء ملزم في لبنان وفقاً للواقع الدستوري الحالي.
2 ــ يجوز لمجلس النواب السماح بإجراء استفتاء استشاري غير ملزم قانوناً بنتائجه، علماً بأن ذلك لا يقلل من أهمية هذا الحدث من الناحية السياسية كون الشرعية التي تنجم من مواقفة الشعب على نص محدد يشكل ضغطا سياسيا كبيرا على النواب كي يحولوا الرأي الذي أبداه الشعب في الاستفتاء إلى نص يتمتع بقوة القانون.
3 ــ إنّ إجراء استفتاء تشريعي ملزم يتطلب تعديلا للدستور.
*أستاذ جامعي