بُعيد الانتخابات البلدية الأخيرة، بدا أن ما ينتظر القوى السياسية في الاستحقاقات الانتخابية المقبلة لن يكون سهلاً أبداً؛ لكن ما حصل في الصناديق البلدية بقي فيها. فأياً كان قانون الانتخابات النيابية، لا شك أن انكفاء الناشطين السياسيين الجدد وعودة الوسائل الإعلامية كافة إلى بيت الطاعة السياسية وغياب المشروع البديل سيجعل من الانتخابات النيابية المقبلة مجرد محطة تستعيد فيها السلطة ثقتها بنفسها لتنطلق من جديد.
فقبل عام واحد، كان تيار المستقبل يترنح بسبب الأزمة السعودية المالية أولاً، وغياب الرئيس سعد الحريري ثانياً، وتجاسر بعض القادة مثل الوزير السابق أشرف ريفي على رفع الصوت ضد أولياء نعمتهم ثالثاً؛ لكن هذه جميعها حُلَّت أو في طريقها إلى الحل. بدورهم، كان العونيون في أسوأ أيامهم بحكم وصول جميع محاولات الإصلاح والتغيير إلى طرق مسدودة وتراجع الرهان على انتخاب العماد ميشال عون رئيساً وتفاقم المشاكل الداخلية هنا أيضاً، لكن هذه جميعها حُلّت مع انتخاب الجنرال رئيساً. وبموازاة استعادة أفرقاء السلطة الزخم الشعبي أو إيقاف الانهيار، أقله يبدو واضحاً أنهم نجحوا في نقل وسائل «إعلام الثورة» من مرحلة التحريض عليهم إلى مرحلة تلميع صورتهم. كما انتقل هؤلاء من مرحلة التسويات التقليدية إلى مرحلة التحالفات السياسية الوطيدة، ومن يدقق قليلاً سيلاحظ أنهم دأبوا على الجلوس حول طاولة واحدة، لكنها المرة الأولى التي يجلسون فيها ممسكين بأيدي بعضهم البعض. فالتيار الوطني الحر يمسك بيد حزب الله من جهة وبيد القوات اللبنانية من جهة أخرى، فيما الحزب يمسك يد الرئيس نبيه بري بيده الأخرى، والأخير يمسك بيد النائب وليد جنبلاط، وجنبلاط يمسك بيد الرئيس سعد الحريري الذي يمسك بيد القوات، رغم كل ما يشاع، والقوات تمسك بيد العونيين. وهكذا يمكن القول إن ثمة سلسلة متماسكة تحمي السلطة وتذود عنها. ومقابل تكاتف هؤلاء وتضامنهم، كان يفترض أن تكون الانتخابات البلدية الخطوة الأولى في مسيرة «بيروت مدينتي» مثلاً، وهي خطت يومها خطوة جبارة كان يفترض أن تضاعف من حماستها لتقفز خطوات إضافية. لكن ما حصل كان العكس تماماً: «بيروت مدينتي» أطفأت محركاتها وانكفأت وتراجعت. وحتى بلدية الظل التي انبثقت منها لمراقبة عمل المجلس البلدي للعاصمة تبدو حتى الآن مجرد واحدة من مبادرات المجتمع المدنيّ الكثيرة التي تنتهي عادة بإطلاق موقع إلكتروني، من دون أي زخم إعلاميّ أو شعبيّ. وفي طرابلس، كان يفترض بالمجلس البلدي الفائز على تحالف المستقبل ونجيب ميقاتي ومحمد الصفدي ومحمد كبارة وفيصل كرامي والجماعة الإسلامية والأحباش وغيرهم من أفرقاء السلطة أن يبادر إلى اتخاذ مجموعة إجراءات سريعة ترضي الرغبة الشعبية برؤية تغيير وإصلاح كبيرين في المدينة، لكن مشكلة صغيرة كحل أزمة السير تتفاقم بدل أن تحل، مع العلم بأن الوزير السابق أشرف ريفي كان يعد بتأمين الكهرباء «24 على 24» خلال بضعة أشهر وإنهاء ورشة البنية التحتية ووضع طرابلس على خريطة السياحة العالمية وغيره مما لم يتحقق منه شيء، في ظل اكتفاء بلدية ريفي بتكريم أبطال الألعاب القتالية حصراً. ومن دون الدخول في عالم المؤامرات والنظريات المتعلقة بانطلاقة هذه المجموعات وانكفائها، يمكن القول إن الخطر الصغير الذي كان يتهدد السلطة منها لم يعد موجوداً بكل بساطة، علماً بأنها كانت مثالاً يحتذى لعدد مهم من الشباب والمجموعات الشبابية التي حققت نتائج مشجعة في عدد كبير من المناطق.
وعليه تذهب القوى السياسية إلى الاستحقاق الانتخابيّ المقبل، أياً كان قانونه، متضامنة في ما بينها، متحررة من التحريض الإعلاميّ وضغط الخيار البديل. ولعل بعض الأفرقاء يختلفون على مقعد أو مقعدين في ما بينهم فيتكلون على الصناديق لتفصل بينهم، إلا أن هذا لن يغير في العناوين العريضة شيئاً. فالأمر نفسه، سواء كان لدى القوات 9 نواب والكتائب 5 نواب، أو القوات 11 نائباً والكتائب 3 نواب. ولن يتغير شيء إن كان النائب وليد جنبلاط ممثلا بتسعة أو ثمانية أو سبعة نواب طالما من سيخسرهم سيذهبون إلى أحد مكونات السلطة نفسها لا إلى مجموعة إصلاحية داخل المجلس. فعملياً، انطلقت عدة ماكينات انتخابية في العمل، فيما لا تلوح في الأفق المقابل أية استعدادات لرفع الصوت الاعتراضيّ أقله أو قول «لا»، رمزية، في دائرة واحدة. يبدو حال «الثورة اللبنانية» من حال أقرانها من الثورات العربية التي انتهت قبل أن تبدأ، من دون أن تكبر في بيروت أو تتسع، أو تتطلب من النظام إرسال أكثر من مجموعة صغيرة من أنصاره لإخمادها بالقليل من العصيّ والحجارة.