لم يكن تولي الرئيس الراحل رفيق الحريري سدة رئاسة الحكومة عام 1992 مفاجئاً لأحد. القوى الدولية والإقليمية والمحلية كانت تدرك أن الحريري هو ممثل الحصة الأميركية ــ السعودية في الاتفاق مع سوريا على تنفيذ الطائف.
حتى أولويات الحريري في ذلك الحين، لم تكن لتقدم مصالح على مصالح. كان همّه السير بالتفاهم الإقليمي ــ الدولي، على أن يتولى هو صياغة التحالفات الداخلية المناسبة. وكان يعوّل بالدرجة الأولى على قدراته المالية الهائلة التي تتيح له حلحلة العقد، وفتح أبواب النعيم للخارجين من الحرب الأهلية. ورهانات الحريري في حينه، لم تكن على تحولات داخلية توسع من هامش حكمه، بل على تغييرات إقليمية مرتبطة بمشروع التسوية العربية ــ الإسرائيلية، التي كان الحريري يفترض أنها ستقلص ــ حكماً ــ الدور السوري، وتعفي لبنان من «عبء المقاومة»، ما يمنحه الهوامش التي تتيح له الإمساك بكل شيء.
لم يكن الحريري الأول قليل الحيلة. لكنه كان قليل الصبر، بخلاف ما أُشيع عنه كمولود سياسي في مضارب العرب في الصحراء، حيث الصبر ميزة للتكيف مع الوقت المهدور بحجة انتظار من يقضي بالأمر. وكان الحريري يرتاب في كل ما يحصل من حوله. صحيح أنه وافق حليفيه المسلمين، أي نبيه بري ووليد جنبلاط على ضرورة القضاء على كل التركيبة التي خلفتها المارونية السياسية في الدولة والإدارة وحتى القطاع الخاص. لكنه، كان لا يفهم سبب امتناع حليفيه عن مجاراته في معركة التحولات الكبرى. صحيح أنه سعى إلى كسب ثقة حافظ الأسد، لكن في كل مرة كان يعود فيها من دمشق بابتسامة عريضة، كان يشهد على تمدد «الخط الموازي»، والذي كان أساسه الجيش اللبناني بقيادة العماد إميل لحود والمقاومة الإسلامية ممثلة بحزب الله، كقاعدتين لبناء الاعتراض على الحقبة الحريرية.
بالغ الحريري الأول في تقدير موقعه لدى القيادة السورية. ربما هو لم يتعلم بالضبط كيف تسير الأمور في دمشق. اعتقد لفترة غير قصيرة، أن الفريق السوري المكلف ملف لبنان يملك تفويضاً مطلقاً في متابعة كل الشؤون. لذلك، لم يجد ما يمنعه من تعزيز العلاقة مع الثلاثي حكمت الشهابي، عبد الحليم خدام وغازي كنعان. وظل يعتقد أن «الطريق العسكري» المفتوح أمام معارضيه المحليين، إلى قصر الأسد، يمكن احتواؤه من خلال بناء جسر مباشر من التواصل مع باسل الأسد ثم مع شقيقه بشار. لكن الحريري لم يُدخل تعديلات حقيقية على كامل برنامجه، برغم إدراكه أمرين: الأول، وهو تعثّر مشروع التسوية الإقليمي، والثاني، تعاظم نفوذ معارضيه في الجيش والأمن والمقاومة. حتى جاءت الضربة الأولى في عام 1998.

بين الأب والابن، ضاعت ثروة، وتراجع النفوذ، وبقيت فرصة لخوض معركة من أجل البقاء


لم ينتظر الحريري الأول كثيراً، حتى تقدم إلى جميع اللاعبين المحليين والإقليميين والدولية بنسخته الجديدة. الحريري الثاني، بوصفه زعيماً نظيراً للزعماء الطائفيين في البلاد. لديه نفوذ عند غالبية ساحقة من السنّة في لبنان، وحضور جدي في بقية الطوائف. لكنه هذه المرة بدّل تحالفاته وفقاً لتبدل الخريطة إقليمياً ودولياً. قرأ الحريري الثاني انسحاب العدو من لبنان عام ألفين على أنه خطوة قد تطيح فريقه المحلي والإقليمي، وقد يكون في الوقت عينه فرصة لتعزيز الموقف من خلال رفع سقف المواجهة مع سوريا وحلفائها في لبنان. وهو قرر ــ من تلقاء نفسه أو بدعم خارجي ــ الانتقال إلى ضفة المواجهة مع سوريا. ولم يكن أمامه من حليف حقيقي سوى الكنيسة المارونية، بما تمثل من عنصر الاعتراض المسيحي الأبرز على السياسات السورية في لبنان. وهذا ما قاد الحريري إلى استحضار نفوذه الطائفي من جهة، واستغلال قوة حضوره في القطاع الخاص الذي قام على أنقاض دولة الرعاية من جهة ثانية، بالإضافة إلى تحالفاته الجديدة. وجرب يومها أن يقلب الطاولة عبر انتخاب رئيس جديد للجمهورية، من خارج سرب سوريا والمقاومة.
ثم قتل الحريري. وتولى نجله سعد وراثة القيادة السياسية. لكن سعد كان يحضر إلى المشهد على وقع تطورات عاصفة محلياً وإقليمياً ودولياً. وبدا الحريري الابن، في هيئة الحريري الثالث الذي يفترض به استثمار كل ما قام به الحريري الأول والثاني، بالإضافة إلى استثمار الدم. إلا أن الحريري الثالث توهم أن إخراج الجيش السوري كفيل بإنجاز المهمة. وهو راهن من دون تردد، ليس على الحلف السياسي الجديد الذي قام، بل على عواصف خارجية ستقلع كل من يقف في طريق المشروع الأميركي المتجدد بعد غزو العراق. لذلك، بمعزل عمّا إذا كان يقدر أو لا، إلا أن الحريري الثالث، مضى بعيداً، في لعبة سياسية لا تكبره حجماً وحسب، بل تتجاوز قدرات كل فريقه المحلي، وحتى الإقليمي. وليس صدفة استخدام بدعة المحكمة الدولية، لترهيب الفريق السياسي المناوئ للحريري، بين اعتقال ونفي وإقامة جبرية وصمت. ثم طُلب إلى الغرب استخدام إسرائيل لتصفية العدو الأصعب، وهو ما جرت محاولة إنجازه في حرب عام 2006. هذه الحرب، لم توجه ضربة إلى المشروع الأميركي في المنطقة فحسب. لكن ضحيتها الأبرز لبنانياً، كانت الحريري الثالث. ذلك أنه لم يكن ينقص فريق حلفاء المقاومة إلا استقالة تخرجه نهائياً من الحكم.
وإذا كان الحريري الأول قد احتاج عامين للعودة إلى الحكم بنسخته الثانية، فإن الحريري الثالث احتاج إلى ست سنوات للعودة بنسخته الرابعة. وهي النسخة التي تشتمل على كل الحسومات والتنازلات، بمعزل عن كيفية المجاهرة بها. وكانت الذروة بانتخاب العماد ميشال عون رئيس للجمهورية، وإذا كان الحريري الرابع أقل فجوراً من «القوات اللبنانية»، فبلع موسى الرئاسة دون ادعاءات، إلا أنه يراهن اليوم على استعادة النفوذ المحلي، كقاعدة لا يمكن تجاوزها لإعادة بناء الهيكل الذي تهدم لثلاث مرات. ويترافق ذلك مع واقعية تنطلق من كون الحريري الرابع جاء إلى الحكم هذه المرة منزوع السلاح الثقيل: لا ثروة يمكن استعمالها ضد الآخرين، ولا تماسك شعبياً يتيح له مبارزة الآخرين، ولا ضمانات إقليمية ودولية تمكنه من الاسترخاء أمام خصومه.
الحريري الرابع، أمام فرصة استعادة الدور الأساسي، لكنها فرصة محكومة بمراجعة فعلية، وبتغييرات جدية في العقلية والأدوات. وهو أمر متاح له الآن خصوصاً، إذ إن أعتى خصومه لا يتصرفون معه كما تصرفوا مع الحريري الأول والثاني والثالث. بل إن بعض خصومه يفضل الاعتناء بالحريري بدل الاستمرار في مواجهة الجنون!