عيناها المغرورقتان بالدموع تبدوان أصدق تعبير عمّا يختلج في صدرها من مشاعر. لا همّ إن سال الكُحل على خديها. الزينة على وجهها لم تعد ضرورية، ما دام الهدف قد تحقق. ماري شلهوب، الزميلة في الوكالة الوطنية للإعلام، حاولت طويلاً حبس دمعها. رؤية العماد ميشال عون يعود إلى قصر بعبدا رئيساً للجمهورية، صعّبت عليها مهمتها. ابنة عكار استعادت بثوانٍ لحظات طويلة عاشتها منذ الـ1989، في هذه البقعة الجغرافية بالذات. «ما بعرف شو صار، ما بقا قادرة احبس الدمعة». تمسح عينيها اللّتين اكتسبتا لون الدم، «أتفاجأ بزملاء كانوا في تلك الأيام يكتبون التقارير بأني عونية، هم اليوم موجودون هنا يصفون أنفسهم بالعونيين»، تقولها بأسى وشماتة. ذاكرتها تقودها 27 سنة إلى الوراء، «كان طريق نهر الكلب مُقفلاً فكنا نمرّ من طريق يُستعمل للمدافع والدبابات». ابنة شقيقتها كانت صغيرة «كان يأتي بها والدها أيضاً وأول كلمة تفوهت بها كانت عون». تلفظها باستبدال حرف الألف بالعين، مُقلدة أسلوب كلام طفلة صغيرة. منذ الساعة الـ11 من قبل ظهر أمس، وصلت ماري إلى القصر الذي كانت تنام فيه أيام "الحج" إلى بعبدا. تتحدث عن تلك الفترة يوم «ظلموه لعون. حاولوا اغتياله وهو يُغادر القصر، هل تعرفون ذلك؟ ولكن الله حاميه». المراسم الرسمية ونفاد بطارية هاتفها من الشحن منعاها من التقاط صورة رسمية مع «الجنرال». لا يهّم. «سأعود لأتصور معه».
«ظلموه لعون. حاولوا اغتياله وهو يُغادر القصر، ولكن الله حاميه»

ليست ماري وحدها التي قادتها عاطفتها إلى «بيت الشعب» لتستقبل سيّده. قصّة أخرى بطلها شاب ثلاثيني، كان في الـ1989 طفلاً صغيراً يتنقل بين أكتاف أهله وكتفي زعيم ميليشيا نمور الأحرار الشهيد داني شمعون في باحة قصر بعبدا، يوم كان «النمر» كتفاً بكتف مع عون. ما زال الشاب يحتفظ بصوره وهو يحمل العلم اللبناني في تلك الباحة وأمامه نافورة المياه الشهيرة. ليس مسيساً ولم يتحمس قبل تاريخ أمس لحدث الانتخاب. إلا أنّ اقتراب عون من تسجيل الهدف الأسمى، جعله ينغل في دفتر ذكرياته من جديد. أمور كثيرة تبدلّت بين أواخر سنوات القرن الماضي والأيام الحالية في القصر الجمهوري. ما لم يتغير هو هذه العاطفة التي ما زال يحملها أصحابها أمانة في قلوبهم لرجل آمنوا بأنه هو خلاصهم. من أجله قدموا مجوهراتهم وأموالهم وأرواح أحبة وسنوات عمرهم. ومن أجل تنصيبه عماداً للجمهورية، ما حادوا لحظة عن خطه.
بين محبيه يُرّقى ميشال عون إلى مرتبة الأبوة. هو «بيّ الكل». تؤمن بذلك الزميلة في قناة الـ «أو تي في» نانسي صعب التي لم تتمكن من تمالك أعصابها لحظة إعلان حصول عون على العدد الكافي من الأصوات لتنصيبه رئيساً في الدورة الثانية من الجلسة التشريعية. تحولت صعب إلى قبلةٍ لكاميرات القنوات التلفزيونية. الدموع أيضاً جمعتها بزميلتها في إذاعة «صوت المدى» حنان مرهج. البكاء حرّر الأنفس التي انتظرت هذه اللحظة طويلاً.
رؤية عون يتبختر على السجادة الحمراء واقع، ولكنه يكاد يكون أقرب إلى حلم. لم تكن الحرب التي خيضت على عون في الـ1989 وأدت إلى إخراجه من قصر بعبدا ونفيه إلى فرنسا حدثاً سياسياً عابراً. وما جرى حينذاك، كان سيدمّر أي حالة سياسية، ويحول دون عودة الجنرال إلى السياسة. لكن عون يختلف عن غيره. مقومات عديدة اجتمعت في شخصه أدّت إلى تكوين هذه الحالة. أولاً، شخصيته القيادية. ثانياً، التفاف الناس حوله وتشكيله حالة جماهيرية أساسها عاطفي. ثالثاً، قوّة التحالفات التي عقدها وأهمها تفاهم مار مخايل في الـ2006. كلّ هذه الأمور أعادته إلى بعبدا «بالبدلة الرسمية».
«عنجد رجعت الحركة»، يقول أحد الموظفين في القصر الجمهوري الذين كانوا كُثراً أمس ينتظرون رئيسهم الجديد. التدابير الأمنية مشددة وقد طُلبت أسماء مندوبي الوسائل الإعلامية قبل 48 ساعة من يوم الاثنين. بين المكاتب التابعة لمكتب الإعلام في القصر، توزع المندوبون. بعد الساعة الـ11 بقليل، يُطلب إليهم التوجه إلى مكتب المسؤول الإعلامي رفيق شلالا الذي وزّع الإرشادات الأخيرة قبل أن «أتوجه غير مأسوف عليّ إلى المجلس النيابي»، يقول ممازحاً. يُخبر أنه «حين تنطلق نافورة المياه، يكون الرئيس قد وصل إلى النقطة رقم 6 وتُطلق 21 طلقة من المدفعية الخلّبية». وعلى الرغم من أن هوية الرئيس معروفة «ولكن لن توزع سيرته الذاتية إلا بعد الانتخاب». بعد ذلك، انتقل شلالا مع المدير العام للرئاسة أنطوان شقير إلى ساحة النجمة.
مرّ الوقت ثقيلاً على الصحافيين الذين كانوا يتابعون مجريات جلسة الانتخاب من القاعة العامة. الأعصاب اشتدت بعد عدم حصول عون على الأصوات الكافية من الدورة الأولى وإعادة توزيع المغلفات مرتين. «من صبر نال»، تُعقب الزميلة هدى شديد. محاولات قتل الملل كانت بالأحاديث الجانبية، بطلها نقيب المصورين السابق نبيل إسماعيل. «رغم كلمة السرّ التي تأتي، هنا الديموقراطية الحقيقية»، يقول عارضاً تجربته في اليمن وسوريا، ومقارناً بينها وبين الانتخابات في لبنان.
بعد قسم اليمين الدستورية، كان الانتقال إلى الباحة الخارجية حيث اصطفت كتيبة تشريفات الحرس الجمهوري وصولاً إلى مدخل القصر. لحظات قبل أن يصل أفراد العائلة العونية: السيدة ناديا، وبناتها الثلاث، وأصهرتها، والأحفاد. شامل روكز كان هو المطلوب من وسائل الإعلام. لم يعمد العميد المتقاعد إلى إخفاء بسمته حين وُصّف عون بفخامة الرئيس، مؤكداً أنه «سأكون في خدمته في الموقع الذي يراه مناسباً»، رداً على سؤال إن كان سيُعين وزيراً.
أعيد رفع العلم اللبناني ونُظفت السجادة الحمراء للمرة الأخيرة، قبل أن يظهر عليها عون قرابة الساعة 3 و20 دقيقة. على الباب الرئيسي تنتظره عائلته وفي صالون السفراء المصورون لالتقاط الصور الرسمية له. أما في الخارج، على الطريق المؤدية إلى القصر، فـ«تسونامي» من الأعلام البرتقالية وعونيون افترش جزء منهم الأرض وجزء آخر رقص في وسط الطريق. بعد أن تحقق الحلم، ينتظرون أن يبدأ العمل لبناء الجمهورية.