كانت لحظة تاريخيّة ربّما، لكنها تراجيكوميديّة بالتأكيد. لحظة سياسيّة، لا تخلو من الترفيه. لحظة جديّة وسرياليّة. رغم اللمسة المفبركة لما تراه وتسمعه، تقنع نفسك أنّها لحظة مفصليّة، على الأرجح، هناك ما قبلها وما بعدها. إذا لم يفاجئنا أي «طوربيد» سعودي في الأيّام القليلة المقبلة، يفترض أن تضع هذه اللحظة حدّاً لاحتضار المؤسسات الدستوريّة، وتحمل إلينا الفرج. لحظة سحريّة ستعيد الجنرال إلى بعبدا، ولو مكبّلاً بالتسويات والتنازلات. وستفتح أمام الشعب اللبناني المنهك، عهداً جديداً من الاستقرار والازدهار. «عهد جديد» لا نعرف إلى أي حد سيأذن بتنقية الحياة السياسيّة. لنقل إنّه سيشهد تعديلات في قواعد اللعبة، ومسمياتها وتحالفاتها، بما يحفظ مصالح الطبقة السياسيّة في لبنان. تلك اللحظة، بالأمس في «بيت الوسط»، كانت تنطوي على شيء كاريكاتوري، كما هي الحال كلّما وقف سعد الحريري إلى المنبر، خصوصاً تحت «تمثال القائد»، في ظل أب شهيد سيستدعيه مراراً، ليبرر ارتكابه المحظور في نظر جماعته: تبنّي ترشيح ميشال عون للرئاسة. تلك اللحظة كم تخيّلناها، وانتظرناها. من العام 2014 بالنسبة إلى بعضهم، تصوّروا! وحين وصلت أخيراً، إذا بك تفكّر في سرك: كل هذا من أجل ذلك؟دخل الشيخ سعد القاعة التي تغص بالأعيان وممثلي الشعب، يحيطون به كما كان يلتئم الأشراف والنبلاء حول الامبراطور الروماني. تقمّص على الفور دوره التراجيدي: بالأبيض والأسود، بلحية البطل المهزوم والوجه المتعب والعينين الناتئتين المفتوحتين على فراغ. الدور جرى التدرب عليه بعناية، الحركات مدروسة، «الافّيهات» أيضاً. الخطاب الذي من الواضح أنّه تَلقّنه جيّداً، ألقاه بلا أخطاء تقريباً، ولا لعثمات وارتباكات ظاهرة، كمن يؤدّي مونولوغاً شكسبيريّاً. لقد أحرز الشيخ سعد تحسّناً مدهشاً في فنّ الخطابة… وهذا التشديد على اللفظ اللبناني، كما «زاد الخير» في الأوبريت الرحبانيّة، يخفي جهداً خارقاً في الاندماج اللبناني، ومحو آخر بقايا اللهجة السعوديّة. تفكّر أن هذه «الخدعة البصريّة»، هذه الصورة المفبركة للرجل الذي أمامك، تشبه إلى حدّ بعيد المنطق الاصطناعي الذي يطالعنا به. ألا تخفي الرواية السياسيّة المعلنة للحريري، في باطنها، حقيقة مغايرة أو نقيضة؟ هكذا تكتشف أنّه قرر خوض السياسة بناء على طلب الجماهير، وبدّد ثروته من أجل مشروعه الوطني: «لو اردت الثروة لما دخلت السياسة، لقد انفقت فيها كل ما ورثت دفاعاً عن حلم من أورثني». وتكتشف أنّه هو الذي «كبّر عقله» في 7 أيّار، وقاوم بذكائه وأخلاقه وشهامته، الفخ المنصوب لاستدراجه إلى وحول الحرب الأهليّة! ولو أراد للقّن العصابات درساً لن تنساه. وتكتشف أن ارهابيي «نهر البارد» جاؤوا «من أقبية النظام السوري» وليس هو من كان مكلّفاً من السعوديّة بعلفهم وتسليحهم. إحمد ربّك أن الخطاب لم يزد على الـ 33 دقيقة، وإلا لاكتشفنا أن الرفيق سعد مناضل نقابي في «سعودي أوجيه»، وناشط في حملة اسقاط النظام الطائفي.
«ترى ما عسى رفيق الحريري كان فاعلاً…؟». لاحظوا الرخامة الأدبيّة! وتكرّ السبحة. لقد راكم الشيخ سعد في هذا «الخطاب التاريخي» السعيد الذكر، كل الكليشيهات والشعارات المعهودة: «السيادة»، «لبنان اولاً»، «الوحدة الوطنيّة»، «السلم الأهلي»، «دولة المؤسسات»، «رفض» التحريض المذهبي والطائفي، «الحسرة» على الدم السوري المسفوك، توجيه اصبع الاتهام «الناصعة» إلى جماعة «السلاح» و«الميليشيات»… من دون أن ننسى «حب الحياة» والتضحية في سبيل الوطن والشعب! لا ندري إلى أي مدى نجح الشيخ سعد في اقناع شارعه بمبادرة تتويج عون في بعبدا «المخالفة للطبيعة». لكن المؤكّد أن كل هذه المغالاة والزعبرة وأبلسة الخصم… تخفي هزيمة لا تقال. وذاك التصعيد يسهّل تقديم «الاستسلام» المكابر على أنّه بطولة، على حافة الزلزال الكبير، في لحظة غفلة عربيّة ودوليّة. قائد المحاور يهتف خارج الأسوار «انه استسلام لإيران»، أما الأفعوان الليبرالي، فيدينه بهدوء وعقلانيّة من عقر دار القيصر المهزوم، في «بيت الوسط».
لقد تألّق الحريري الابن بشخصيّة الامبراطور المكسور، المكابر، الشجاع، الشهم، الذي يصارح الأشراف، ويخاطب بجرأة ملحميّة «الرعاع» المحتشدين في الخارج. الشيخ سعد في هذه اللحظة التراجيديّة، يقف في مكان ما بين «كاليغولا» و«يوليوس قيصر». في الخلفيّة «كاليغولا» العابث الذي خسر عرشه بسبب انغماسه في اللهو والملذات، وفي المقدّمة «يوليوس قيصر» المطعون يصرخ بأسى: «حتى أنت يا بروتوس!». حتى هنا يزعبر الشيخ سعد على فكرة، فهو في الحقيقة «بروتوس» الامبراطوريّة لا «قيصرها» المغدور. لا شك في أن الذي كتب خطاب الشيخ سعد لديه ثقافة واسعة، ليس فقط في الخدع البصريّة والديماغوجيّة المذهبيّة، بل أيضاً في المسرح التراجيدي. أخاطر بعرشي ربّما، يقول يوليوس الحريري، لكنّني أنقذ روما من براثن هلاك أكيد: «انا مستعد خاطر بنفسي وشعبيتي ومستقبلي السياسي ألف مرّة لأحميكم جميعاً، ومش مستعد خاطر مرة وحدة بأي واحد منكم لإحمي شعبيتي أو مستقبلي السياسي». «التاريخ سيحكم علينا»، يقول الامبراطور ملوّحاً بسيفه الكرتون، وقد اندمج في الدور. في الصف الامامي يضحك الوزير نهاد المشنوق. لا شكّ في أنّه يعرف أشياء كثيرة لا تقال الليلة للجماهير. «نعم القرار قائم على الأمل بلبنان واللبنانيين». هنيئاً لنا زمن «الأمل».