من الطبيعي أن ينشغل الوسط السياسي، هذه الأيام الدقيقة، بالحدث الرئاسي وحده، مع احتمال انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية، بعد سنتين ونصف سنة من الشغور الرئاسي. مسلسل المفاجآت المتعلقة بإنجاز هذا الاستحقاق يكفي لأن يشغل جميع القوى السياسية عن مواكبة أي تطور إقليمي أو داخلي، حتى لو كان بحجم الهجوم على الموصل وما يجري في حلب والمفاوضات الدولية حول سوريا. لكن بعيداً عن يوميات الحدث الرئاسي، فإن جانباً أساسياً يتعلق بالتطورات الاقليمية، يتصل مباشرة بالوضع الداخلي، إن في الملف الرئاسي أو في حيثيات تتعلق بوضع النازحين السوريين، وتجعل ملفهم يأخذ حيّزاً مهماً في تعاطي ديبلوماسيين أوروبيين مع وضع منطقة الشمال، علماً بأن هذا الملف المتفجر سيكون أحد أكبر التحديات التي تواجه العهد الجديد.
تمرير الانتخابات الرئاسية بتغطية من دول إقليمية فاعلة ليس تسوية شاملة

فانفتاح الباب فجأة على تسهيل للحل الرئاسي، مع الاعتراف باستمرار بعض العقبات المحلية، لا يتعلق ــــ بحسب أوساط سياسية مواكبة ــــ بإدارة محلية محض لملف شائك بهذا الحجم. صحيح أن الحراك الداخلي ترك تأثيراً مباشراً، لجهة تحسين التفاوض بين الافرقاء المعنيين كالتيار الوطني الحر وتيار المستقبل وحلفائهما، وساهم في تذليل عقبات محلية بحت، إلا أن هذا الحراك لم يكتب له سابقاً أن ينتج تفاهماً بالحد الادنى حول الانتخابات. لكن غبار معركة الموصل، التي يعرف أهميتها وتأثيراتها المستقبلية من هم على تماس مباشر مع ما يجري في العراق، والإحاطة الدولية بحلب، وتداعيات المفاوضات الجارية حول سوريا، قد تكون من الاسباب الرئيسية التي ساهمت في إعطاء دفع إقليمي للرئاسة في لبنان. فهذه المعركة، وما تشهده من تجاذبات سياسية وطائفية، والقراءة السياسية لمستقبل العراق ومصير "داعش" فيه وفي سوريا، تنذر بتداعيات خطرة، قد تتعدى قيام فدراليات الى رسم جديد للمنطقة مبنيّ على تقسيم لها. من هنا، ولأن لبنان لا يزال يشكل مكاناً تعوّل عليه بعض الدول الإقليمية والغربية لإبقائه ساحة استقرار، وتحييده عن المنحى الخطر الذي تنزلق اليه المنطقة، كانت "الموافقة" على تمرير الانتخابات الرئاسية بأقل الأضرار الممكنة، وبتغطية من دول إقليمية فاعلة. فما يحصل ليس تسوية شاملة ولا انهياراً تاماً، بل مجرد وقف مرحلي لمسار خطر، تماماً كما الحجر الذي يسند سيارة تتجه نحو الهاوية، لا أكثر ولا أقل، لأن انجراف المنطقة نحو مزالق خطرة، يمكنه أن يفجر الوضع اللبناني كساحة تجتمع فيها كل عناصر التفجير، إذا لم يضبط سريعاً ويلملم وضعه عبر إجراء انتخابات بأفضل الظروف الممكنة. من هنا يعوّل على نجاح هذا المسار في الوصول الى انتخابات رئاسية، من دون ضمان مرحلة ما بعد الانتخابات، في انتظار أن تتضح صورة ما سيجري، من العراق وسوريا وصولاً الى الانتخابات الاميركية، وما بينهما مصير "داعش"، والخوف الشامل من انتشارعناصره في البلدان المجاورة، ولبنان من بينها. وهذه النقطة، تحديداً، تحولت في الايام الاخيرة هاجساً أوروبيا يتعلق بأوروبا وبلبنان كممر محتمل لهؤلاء.
ففي عزّ الحركة الرئاسية الكثيفة في لبنان، أفادت معلومات موثوقة بأن عدداً من الوفود الديبلوماسية الغربية التي زارت لبنان أخيراً، ولا سيما الاوروبية منها، لم تأت بمهمات محصورة بالوضع السياسي وما يجري تداوله حول الانتخابات الرئاسية، بل جاءت بمهمات استطلاعية محددة، ذات أهداف مختلفة، حول وضع منطقة الشمال، والاحتمالات التي يمكن أن تواجهها هذه المنطقة، وفق الظروف الاقليمية المستجدة. والاستكشاف الغربي الاوروبي اهتم بعدة محاور متلازمة، منها ما يتعلق بالتأثيرات السياسية والاجتماعية التي تشهدها بعض مناطق الشمال، كاحتمال تحولها إلى بيئة حاضنة للتوترات الدائمة على خلفية التطورات اللبنانية الداخلية، ومنها الانتخابات الرئاسية ومدى مساهمتها في تأجيج أوضاع أمنية تمس بالاستقرار اللبناني، إضافة الى احتمال تحولها إلى مكان آمن لاستقبال عناصر من "داعش" لاجئين من سوريا والعراق. المحور الثاني وضع النازحين السوريين في الشمال وأعدادهم وانعكاس ذلك على التركيبة اللبنانية الداخلية، إضافة الى مناطق انتشارهم الأخرى، لا سيما منها المحاذية لسوريا، في ظل المعلومات التي تتحدث عن ارتفاع أعدادهم في لبنان في صورة مطردة. المحور الثالث، الإجراءات التي يمكن للبنان القيام بها، لمنع استخدام منطقة الشمال البحرية كمعبر للتوجه الى أوروبا. فأولويات الاجهزة الغربية تصبّ حالياً في التركيز على منع تفاقم أزمة اللاجئين السوريين وتزايد أعداد المهاجرين منهم الى أوروبا. ولأن لبنان يعيش حالياً ظرفاً دقيقاً، ويتوقع له أن يشهد ارتدادات تدريجية لمعركة الموصل، والنزوح الكثيف الى سوريا، ومعهم عناصر "داعش"، وإمكان تسرب هؤلاء من سوريا الى لبنان ومنه الى أوروبا، تخشى الاجهزة الغربية أن يتحول الشمال وبعض مناطقه إلى ملجأ لهؤلاء، مع خطر تحول شواطئ الشمال إلى ممر لتهريبهم من لبنان.