... وعلى طريقة الزميل ابراهيم الأمين، هذا الكلام لا علاقة للعماد ميشال عون بمصدره. ولا للرابية بوحيه أو استلهامه. ولا قطعاً للذين يحترفون الغدر بها بأقنعة ساقطة وساقطة... وهو ما فرض، ربما، أن يُكتب هذا الكلام من البعيد البعيد عن بيروت.لكن الواجب يقتضي الإعتراف بأن علاقة عون برئيس المجلس نبيه بري تشبه، إلى حد ما، صورة ذينك الرجلين الواقفين متقابلَين، على طرفي ذلك الرقم العربي المنقلب والمتقلّب. يقول أحدهما: إنه رقم "9". فيجيبه الآخر: بل هو رقم "6". يستنكر الأول: ها أنذا أنظر إليه وأراه "9". ليرد الثاني: وأنا أيضاً أنظر إليه وأؤكد لك أنه "6" لا غير...
تماماً كهذين المتناقضين، يقف عون عند طرف الطائف الذي نفاه. ويقف بري عند طرف الطائف الذي أعلاه وتوّجه وأبّده. يقف عون عند طائف 13 تشرين، الذي احتل الأرض والناس والهوية وأشباه المؤسسات. ويقف بري عند طرف طائف انتخابات 1992، الذي قمع الحرب وأقام دولة ممسوكة وسلماً أهلياً، ولو براعٍ إقليمي وغنمٍ بلدي...
بعد عودة عون في 7 أيار 2005، شاءت كل الظروف أن تراكم إشكالية العلاقة. منذ اللحظة الأولى كان "الأستاذ" ركناً من التحالف الرباعي. وكان الجنرال خصمه وضحيته والشاهد على خلله وشهيد خلّانه. انتهت انتخابات ذلك العام، فاندفع الاثنان صوب مواجهة أكثر علانية. في جلسة انتخاب رئيس المجلس، لم يقترع عون لبري. فرد عليه بري: انشالله المرة الجايي رح تنتخبوني! وبالفعل جاءت المرة المقبلة. انتهت نيابية 2009، واقترع عون لبري في رئاسة المجلس. لكن انتخابات جزين كانت قد سبقت الاثنين. ولم ينس الطرفان أن بين التاريخين، كان ثمة 6 شباط، وكانت حرب تموز، وكان صمود عون يوم ندر الصامدون... هكذا بدا أن تفاهم مار مخايل لم يخفّف من سوء تفاهم عين التينة ــــ الرابية، بل سعّره وفاقمه.
واستمرت الأيام والأحداث. حاول الرجلان تدوير زوايا مواقفهما الحادة وماضيهما المسنّن. غير أن عطباً ما ظل ساكناً في العمق والخلفيات، وخصوصاً في المسكوت عنه ووقائع المحرّمات. حتى صار الطرفان، عند كل مفصل ومحطة ومحكّ، يتقابلان أقل، فيتباعدان أكثر. والأهم، أن كلاً منهما صار يعزّز انطباعه بأن الآخر لا يريده شريكاً. وأن الآخر لا يعترف به كما هو، لا كما يريد له أن يكون.
ففي عين التينة، ثمة انطباع بأن عون لم يدرك فعلياً أن ما يسمى ثنائية شيعية، هي ثنائية فعلاً. لا تابع ومتبوع. ولا آمر ومأمور. وأن رئاسة الجمهورية التي أُخذت بالقوة السورية عامي 1989 و1998، وأُخذت بالقوة الإقليمية وبقدرة "الإقناع" القطري سنة 2008، باتت اليوم خاضعة لمعادلة أخرى. أولى حقائقها أن السيد حسن نصرالله يرفض أن يتعامل مع أي إنسان، وكأن حارة حريك هي عنجر الجديدة. فكيف إذا كان الطرف المعني هو نبيه بري الذي يحرص، في مناسبة وبلا مناسبة، على الترداد بأن "الحزب" خرج من رحم "أمله"؟!
وفي عين التينة هواجس معلنة ومضمرة، من الرئيس القوي أصلاً، ومن عون ورئاسة عون ثانياً. وممن هم مع عون ومن يمثّلهم عون أخيراً. هواجس لم يبادر الرجل المرشح جدياً إلى التحاور حولها، ونقاشها في العمق. ولم يتلقّف أكثر من إشارة جدية إيجابية حيالها، يوم كان الحوار لا يزال مفتوحاً. حتى أن بري قال لأحد الوسطاء ذات يوم قبل عامين ونيف: "هل يريد عون أن يكون مرشحاً أو رئيساً؟ إذا مرشح، لا مشكلة. إذا رئيس، علينا أن نحكي"... يومها لم يصدّق حزب الله أن الإشارة قد جاءت صريحة إلى هذا الحد من عين التينة. نقلها فوراً، وبابتهاج، إلى المعنيين بها. من دون نتيجة...
في المقابل، تطول لائحة "المستمسكات" في الرابية. يقول بعض المتابعين لخط انفتاحها المتقطع والمنتكس دوماً مع عين التينة، إن معظم تجاربها على هذا الصعيد كانت مرّة. مغمّسة بالخيبة والكدر: لم تطلب عين التينة شيئاً إلا قابلناه بالتجاوب والقبول، يقول العارفون بمحطات العلاقة بين الاثنين. هل ننسى أزمة المياومين والورقة المكتوبة والموقّعة ثلاثياً، والتي انتهت كأنها لم تكن؟! أم ننسى كيف تمت التضحية بشربل نحاس على مذبح ميثاقية تلك العلاقة والشراكة، أيضاً من دون جدوى. أم ننسى سلسلة الرواتب وإنجازات لجنة المال والموازنة، التي سقطت في ليلة واحدة، من أجل مشروع التفاهم نفسه، ولا تفاهم... ولا تنتهي الأمثلة ولا تعدّ. وفيها الكثير مما لا يحكى، ولا يحصى...
في المحصلة إلى أين يمكن أن تبلغ الأمور بين الطرفين؟ ثمة عبرتان يجب أن تطرحا بصراحة كاملة، بالإذن من كل المعنيين، ورغم كثرة كتبة التقارير و"زقيقة الصحون" و"مصفقي الصفقات ومتعهّديها". العبرة الأولى للعماد عون: سنة 1982، كان بشير الجميل مرشحاً لرئاسة الجمهورية. وكانت اسرائيل تحتل لبنان. وكانت واشنطن تؤيده، حتى بات فيليب حبيب مدير حملته. وكانت الرياض معه علناً... وكان وما كان مما لم نعد نذكره، ومع ذلك، كان كامل الأسعد ضرورياً لإنجاز الاستحقاق...
أما العبرة الثانية فللرئيس بري: يمكن لموقف عين التينة أن يجهض المبادرة الرئاسية الراهنة. ويمكن له أن يئد الفرصة ويقضي على اللحظة المؤاتية لعون. لكن الأكيد أنه بعدها لن يكون رابح في لبنان. ولن تكون بعدها عين، إلا دامعة. وقد تكون أكثر من تينة... هي حقيقة قد نكتشفها بعد فوات الأوان. لكن يبدو أن أكثر من يدركها اليوم، حتى اليقين، هو السيد حسن نصرالله. أعانه الله على أصدقائه وحلفائه، لأن خصومه وأعداءه، واضح أنه يتكفّل هو بهم!