يُستفز «ابن زحلة» حين يُطلق أحدهم على مسقط رأسه لقب «البلدة». يُسارع إلى التصحيح بأنّ «زحلة مدينة». لا يُلام على ذلك، وهي التي توفّر لأبنائها وأبناء القرى المجاورة كل لوازم الاكتفاء الذاتي. زحلة مدينة تكاد حركتها نهاراً تُضاهي الحركة في بيروت في ساعات الذروة. على مدخل «زاروب» في السوق التجاري، سيارة قديمة تحولت إلى «بسطة» لبيع الكتب... وصورة بشير الجميّل. هذه هي «الصورة الوحيدة يللي بعدها بتبيع»، يقول جوزف، الذي يطلب العودة الشهر المقبل «وشوفي إذا بتلاقي عدد واحد من مجلّة المسيرة»، قاصداً العدد الخاص بذكرى اغتيال الجميّل. على بعد أمتارٍ قليلة منه، مجموعة من الرجال تمكّن الأبيض من شعر رؤوسهم، يجلسون على الرصيف الذي تحول إلى «قهوة». نقاشاتهم تبدأ من «طبخة اليوم» ولا تنتهي عند حدود التقارب الروسي ــ التركي المُستجد. يندر أن يمرّ شخص من دون أن يكون عرضة لـ«شائعاتهم» ونكاتهم. يبدأ الرجل الذي يفخر بأنه «رادار» كل حركة في الشارع، بالتعريف بأنه «كتائبي قديم». صديق «للمرحوم نصري ماروني (شقيق النائب إيلي ماروني الذي قُتل ورفيقه سليم عاصي أمام بيت الكتائب في عام 2008)، ومن أجله عُدت إلى مزاولة نشاطي الحزبي». ولكن بعد وفاة ماروني، «قُلت لهم إنني سأبتعد منعاً لأي إحراج. المُتهم بالجريمة محسوب على آل سكاف وأنا كتائبي ــ سكافي». الرجل فضّل آل سكاف لأنه «لم يعد هناك من كتائب مع إيلي الذي أراد احتكار كل شيء». في البداية، يبدو كلام الرجل مبالغاً فيه، فكل الأحزاب تعاني مشاكل جمّة في عاصمة البقاع. لكن التدقيق مع مسؤولين كتائبيين يُظهر وجود أزمة داخل الحزب، عنوانها إيلي ماروني.
يُتَّهَم ماروني بأنه طلب من مناصريه تشطيب مرشحي الحزب إلى "البلدية"
ليس الكتائب دخيلاً على زحلة. هو موجود في المدينة منذ عام 1937، تاريخ تأسيس الإقليم الكتائبي. من هذا «الملعب» تخرّج أول وزير للحزب هو جان سكاف والنائب جورج عقل في 1968، ثم الوزير إيلي ماروني في 2008، قبل أن يُنتخب نائباً في 2009. الدخول السوري إلى زحلة كان السكين الأولى في خاصرة الحزب العتيق. حوصر الكتائب، ولكنه ظلّ «ما بين العامين 1994 و2002 ملاذاً للشباب الباحثين عن غطاء حزبي»، استناداً إلى أحدهم. «الفورة» الكتائبية ما بين 2005 و2007 كان سببها الوزير بيار الجميّل، الذي شدّ اغتياله العصب. إقليم زحلة «أصبح من الأنشط في لبنان، وهذا الصيت الجميل أسهم في تزكية اسم ماروني لتولي حقيبة وزارية، فضلاً عن وفاة شقيقه». بعد إعادة تولي ماروني رئاسة الإقليم، بدأت الخلافات الكتائبية ــ الكتائبية تطفو إلى السطح، فهو «يتحمل مسؤولية إهمال الجانب المؤسساتي والتنظيمي». أثقال عدة حملها في آن واحد، وزيراً ورئيساً للإقليم، «وحتى حين صدر القرار بمنع الشراكة بين النيابة ورئاسة الإقليم، استُثني منه ماروني، فظل رئيساً للإقليم حتى 2011». هذه المعلومة تؤكدها مصادر كتائبية زحلية وأرشيف الجرائد، في حين أن ماروني يقول إنه كان رئيساً للإقليم بين العامين 1996 و2002، ثم بين 2006 و2008. بقيت الأمور على حالها إلى حين تشكيل حركة كتائبية معارضة لماروني مع رئيس قسم الفرزل السابق بسام سعد ومرشح الحزب عن المقعد الكاثوليكي ورئيس الإقليم السابق رولان خزاقة وعدد من الكتائبيين، وانضم إليهم بعدها رئيس الإقليم الذي خلف ماروني بيار مطران. السبب أنه «أصبح هناك منطق زعيم وأتباع». إضافة إلى ذلك، «هناك بعض التصرفات البسيطة لكنها تؤثر معنوياً، كأن يجلس ماروني في مكتب رئيس الإقليم ويتصرف كما لو أنه هو الرئيس»، كما يقول مؤسس قسم مار الياس الكتائبي ومفوض الإقليم سابقاً وعضو البلدية الحالي غسان المر.
يرى المر أنه في البداية «حاول إيلي الحفاظ على دور الحزب، ولكن لم يكن هناك قناعة أو إقبال من الشباب». يوجد في زحلة 13 قسماً كتائبياً، «لا يعمل منها سوى أقسام مار الياس، مار مخايل ــ مار جرجس، حوش الزراعنة، والمدينة. هناك تعاطف مع التنظيم الذي عمره 80 سنة، ولكن لا يوجد حراك لأنّ الحزبيين يريدون شيئاً جديداً». تسلّم خزاقة رئاسة الإقليم، «على أساس تحسين الوضع، لكن عملولو بالقلب». يُبرر خزاقة استقالته في 2015، بعد نحو سنة من تسلّمه لمهماته، بـ «أنني لم أُرد أن يُهان هذا الحزب العريق». هناك قرابة 1200 بطاقة مجددة ونحو 450 طلب انتساب جديد إلى حزب «لم يعد فيه سوى الذين يتقاضون راتباً وعناصر أمن الدولة».
في مقر إقليم زحلة، يجلس رئيسه يوسف بو زيد برفقة أمين السر فادي مبارك جاهزاً للرد على «اتهامات» الرفاق. بو زيد، من رياق، رفيق لماروني منذ 1996، وشغل سابقاً مركز نائب الرئيس في عهد خزاقة. يُتهم بأنه غير قادر على أن يكون مرجعية سياسية في زحلة وبأنه في الاجتماعات الحزبية، ينكفئ لمصلحة ماروني. أما هو، فيردّ بأن الإقليم «يهتم بالأمور التنظيمية أكثر من السياسية». وفي الاجتماعات، «طبيعي أن يحضر معاليه لكونه نائباً وعضو مكتب سياسي. أنا أشرح فكرتي باقتضاب، ربما هو يأخذ وقتاً أكثر في الكلام». ينفي أن يكون هناك أي تقصير خدماتي لماروني، «شو بدو يلحق تا يلحق. لا يجوز أن يفشل الشخص ويُحمل المسؤولية لسلفه». إلا أن بو زيد نفسه لا يستطيع إخفاء ضعف العمل في الأقسام، ويُقدم مثالاً على ذلك «قسم حوش الأمراء المقفل، ولكن نعمل على تحريك الملف وبدأت الجهود تُثمر، وقسم تربل حيث ينتظر الملتزمون استحقاقاً من أجل أن يتحركوا». يُصرّ على المكابرة عبر القول إن الكتائبيين هم «القوة الصامتة في كل لبنان. كل يوم هناك طلبات جديدة ونسبة الانتسابات إلى ارتفاع».
ليس في التنظيم وحده تجد التباينات بين «أهل البيت» مكاناً لها. فالانتخابات البلدية الأخيرة شكلت مساحةً لتظهيرها أكثر، ولو أنه هذه المرّة لم يكن ماروني هو الغالب. في المجلس البلدي الحالي، تتمثل الكتائب بثلاثة أعضاء: المر، طوني الأشقر وشارل سابا. مصادر زحلية تؤكد أن «ماروني عمد إلى تشطيب المرشحين الكتائبيين لأنه لم يكن راضياً عن ترشيحهم». يعتبر ماروني أنّ هذا «كلام مُغرض لأنني لم أختر أي مرشح». المرّ أيضاً ينفي هذه المعلومة، ولكنه يقول إنّ ماروني قدّم ورقة من 9 أسماء «لا تُمثل القيمة الحقيقية للحزب». يسرد قصّة اختيار الأسماء، فترشيحه أتى «حلّة مشكل»، من أجل تخفيف النقمة على حصول الكتائب على 3 أعضاء. وجرى التوافق على الأشقر «في زحلة بعد أن كان ماروني يريد ترشيح طوني بو بطرس». أما سابا، فيبتسم المر وهو يقول إن «الصيفي طرحت اسمه وطلبت من ماروني الموافقة عليه». كلام ماروني يُناقض رواية المرّ، فاستناداً إليه، «قدمت لأسعد زغيب لائحة بـ9 أسماء، من بينها سابا والأشقر. اختلفنا على العدد وليس الأسماء. ثم طلبوا مني أن أختار أورثوذكسياً ــ حزبياً فاتفقنا على المر». يقول ماروني إنه أمضى «شهراً أشغال شاقة من أجل الانتخابات البلدية»، ولكن قد يكون البعض «انزعج لأن اسمه لم يكن وارداً على اللائحة».
قبل أشهر من الانتخابات النيابية، إن حصلت، يبدو ماروني محاصراً في بيت اليك. من جهة، هناك الوضع السياسي العام الذي فرّق بين القوات اللبنانية والكتائب، وقرّب ما بين الصيفي والكتلة الشعبية. ومن جهة أخرى، النقمة الزحلاوية والكتائبية ترتفع ضدّه. يؤكد المر أن «القيادة المركزية بدأت تقتنع بذلك، وهي تملك الحل». يُدرك أنه لا إمكانية لتبديل نائب لم تنته ولايته، «مضطرين إلى أن نُحافظ على ماروني ونتحمل تبعات هذا الموضوع». ما يُفترض أن يكون «حالة اعتراضية»، يفخر أعضاؤها بأنهم «عرّوا ماروني شعبياً وحزبياً»، رافضين التسليم بأنهم لا يملكون القوة اللازمة لمواجهة ماروني. «شو ناطرين الشباب، ما بعرف. نتمنى وجود حالة اعتراضية تعطي قيمة للعمل الحزبي»، كما يقول المر الذي سبق أن نظم عشاءً للنائب سامي الجميّل دعا إليه الكتائبيين القدامى. هدف العشاء «لم يكن مصالحة حزبية كما أشيع، بل مناسبة للتهنئة بالبلدية الجديدة ولقاءً شبه عائلي».
الخلاصة يُقدمها مستشار الجميّل وعضو البلدية شارل سابا، مستعيناً بالمقولة التاريخية: «إن نصف الناس أعداء لمن ولّي الأحكام، هذا إن عدل». ما لا يجرؤ سابا على قوله، يتفوه به كتائبيون آخرون في زحلة: «الخصومة مع ماروني تزيد كلّما قلّ عدله».





إيلي ماروني: أنا الأقوى

يصف النائب إيلي ماروني نفسه بأنه «قريب من الناس وقدمت أكثر من إمكاناتي. أُزعج البعض؟ ممكن». هو بذل «جهوداً حتى يبقى بيت الكتائب مفتوحاً، وكنت أواجه في زحلة مجموعة غير ملتزمة شرعية الحزب، ولكن لم يُفصل أحد لأنني لم أدّعِ على أحد». يرى أنّ من المعيب على بعض المصادر الزحلاوية اختصار تاريخه بحادثة مقتل شقيقه، «فأنا مرشح منذ عام 2000، وفي عام 2005 كان نصري من يدير معركتي. ثم أراد بيار الجميّل تعييني مديراً عاماً لوزارة الزراعة». لا يستبعد أن يكون «اغتيال نصري قد سرّع في الأمر، ولكن اسمي كان مطروحاً قبل ذلك». هو فخور بأنه حلّ الأول في الانتخابات النيابية «ومُتقدم في كل الإحصاءات. الناس قالت نعم لأنها ناقمة على سياسة الآخرين. أنا الأقوى».
في ما خص المعارضة الداخلية عليه، يقول إنه «صديق الكل وألتقي بالجميع. هناك شباب لا يعرفون ماذا يريدون، ولكن لا يوجد أحد ليس لديه معارضة». المُتداول كتائبياً في زحلة، أن ماروني لا يسمح بتعيين رئيس إقليم لا يوافق عليه، وإلا فسيدفعه إلى الاستقالة. «هل المطلوب ألّا يكون لي رأي؟ وأن أكون على تناقض مع رئيس الإقليم؟ وهل يضرّ أن نكون على وفاق تام؟»، يسأل ماروني الذي يرى أنها المرّة الأولى «التي يكون هناك تنسيق لهذه الدرجة بيني وبين رئيس الإقليم». يغمز من قناة المعارضين له، المسؤولين السابقين في الإقليم تحديداً، قائلاً إنه «لما يكون في مسؤولين بدن يلغوا الآخرين، بدو يصير في مشاكل».