منذ ستة ايام، أصدر الحزب الشيوعي في منطقة حاصبيا بيانا دان فيه «الاعتداء على الرفيق زاهر ابو كرنيب على يد عملاء لحد السابقين، واثنان منهم عضوان في المجلس البلدي في قرية كفرحمام، اضافة الى شرطي البلدية، واثنين من عناصر قوى الامن الداخلي المدعوين احمد وزياد خليفة، وشقيقيهما العميلين السابقين في جيش لحد المدعوين عبدو وعلي خليفة وعضو المجلس البلدي خليل الزغلول العميل السابق»، ويضيف البيان: «اننا في منطقية حاصبيا ندين ونندد بهذا الاعتداء ولن نقبل بعد اليوم ان يعود الاحتلال واعوانه بالزي الرسمي ونهيب بقوى الامن والقضاء العمل لتحقيق العدالة وفقا لقانون يحمي المواطنين من اولئك الساعين لفرض ارادتهم ولا سيما من تسول له نفسه العبث بأمن الوطن والمواطن». في عام 2000 تحرر الجنوب بفضل المقاومة اللبنانية. يومها كنت أغطي احداث التحرير، وتابعت ميدانيا كيف ان الجنوبيين الذين رزحوا تحت نير الاحتلال واعوانه من ابناء جلدتهم لربع قرن، لبوا، وان بكثير من المشقة النفسية، طلب السيد حسن نصرالله الامتناع عن الانتقام من جلاديهم بأنفسهم درءا للفتنة التي كانت اسرائيل تنتظر حدوثها بفارغ الصبر لتعوض ذلك الانتصار الذي سجله لبنان عليها.
يومها تحرر الجنوب بدون ضربة كف. وكان هذا الحال مدعاة ذهول مراقبين كثر، حيث انه ولاول مرة في التاريخ يحصل شيء كهذا.
لكن، عادة ما تلي هذا العمل السامي، اي التسامح، مصالحات وطنية واعترافات المجرمين والعملاء واعادة اعتبار وتكريم للشهداء، وادانات وفرز للعملاء بين خطير ومتعامل مجبر بحكم الواقع، فيعفى الصغير من الإدانة حرصا على السلم الأهلي ويحاكم كبار المجرمين. هكذا، يصبح بإمكان الوطن أن يلتفت الى مستقبله مرتكزا على ارض صلبة من المفاهيم المشتركة التي لا زغل فيها.
الا ان شيئا من هذا لم يحصل في لبنان.
لذا، أصبح مشروعا اليوم ان نتساءل: هل كان السيد يومها على حق في طلبه ذاك؟ أسارع للاجابة: أكيد. ولكن ان نظرنا اليوم من علو السنوات الست عشرة التي تلت التحرير، الى اداء القضاء اللبناني (ما خلا بعضه) في ملف العمالة، الذي أدى بتساهله المريب الى تدرج العملاء نفسياً من طلب المغفرة والتوسل والاختباء الى المجاهرة بالعمالة، نقول، ربما... لم يكن السيد على حق.
تساهل المقاومة والوطنيين من اللبنانيين، سهل عودة 3500 عائلة من اسرائيل، كانت قد هربت الى هناك خوفا وتحت ضغط الدعاية الاسرائيلية واللحدية. كان بينهم 600 مطلوب بمذكرات توقيف من المحكمة العسكرية وسويت امورهم بمجرد دفع غرامة 333 دولاراً بجرم دخول اراضي العدو، لكننا كلنا كنا ننتظر ان تؤمن الدولة اللبنانية كفة الميزان الأخرى بمقاضاة العملاء من الجلادين والمحققين في المعتقلات وقاصفي البلدات بالمدافع، الا ان ذلك لم يحصل فعليا. فالقانون اللبناني الذي ينص على اعدام كل من حمل سلاحا الى جانب العدو، اصبحت ترجمته لبنانيا: بعض الاحكام التي لم يتجاوز اقصاها عشر سنوات خففت بتخفيض السنة السجنية وحجج اخرى الى اقل من ذلك بكثير. عاد الكثيرون ممن تلوثت ايديهم بالدماء اللبنانية الى قراهم وبلداتهم، سالمين، غانمين، وبعضهم حصل على تعويضات من اسرائيل يصرفها بحبور وسرور، وتعويضات أخرى من... لبنان فؤاد السنيورة (قبل ان نجبره على استعادة تلك التعويضات منهم حين كان وزيرا للمالية).
لذا، كيف لنا الا نعيد النظر اليوم بجدوى التحرير من دون ضربة كف؟
كيف لنا ألا نعيد النظر اليوم بجدوى التحرير من دون ضربة كف؟

في عام 2014، وفي اوج موجة احكام القضاء المدانة هذه، عبر الزميل حسن عليق، وتعليقا على قيام العميل المدان فايز كرم بالإدعاء على "الأخبار" لأنها وصفته بالعميل، عن غضبه وقرفه داعيا الى قتل العملاء. لم يكتب رأيه ذاك في مقالة بالجريدة ولكن على الفايسبوك، المعبر الفوري عن تفاعلنا مع الحياة العامة.
في سياق آخر غير الذي وصفناه بشكل شديد العمومية لضيق المساحة، كنا سندين رأيا مثل هذا. ولكن في السياق المذكور اعلاه، كيف ندينه؟ وبأي حق؟
حين تختل مفاهيم القيم الاساسية التي يقوم عليها عقدنا الاجتماعي ومفهوم الوطن شخصيا، فتقوم السلطات الموكلة بتنفيذ القانون، بتشويه مفهوم الوطن والهوية والخيانة بممارساتها وترسخ الاحساس بأنه لا قانون الا قانون الأقوياء، كيف لنا ان ندين من يكفر بالبلد وبالقانون وبالقضاء؟
حين يعود العملاء الذين اشتهر منهم الجلاد والمحقق (أنطون الحايك الملقب بأبو قفل، والجلاد والمحقق جهاد طنوس) الى قراهم ووظائفهم العامة آمنين، «عادي»، حين يرى اللبنانيون من كان يضطهدهم على الحاجز الاسرائيلي ويقصفهم بالمدافع ويصلبهم ويذلهم ويسخرهم لأعماله ويعذب ابناءهم لخمسة وعشرين عاما، يتجول «عادي» بينهم «وبراءة الأطفال في عينيه»، مزودا بسجل عدلي مهفهف مرتب ونظيف اين منه سجل الأم تيريزا، ألا يكون ذلك استدراجاً للفتنة التي تفاداها السيد بشجاعة قل نظيرها؟ الا يكون ذلك دفعا للمواطن لاستيفاء حقه بيده؟
استيفاء الحق باليد بدأ فعلا بالحصول، ليس في موضوع العمالة، وقد نغامر بالقول للاسف، ذلك ان المتضررين من العملاء، او الأكثر تضررا اي الاسرى المحررين، يتمتعون بأخلاق سامية، وملتزمون السلم الوطني (لا اعرف الى متى؟) ولكن في قضايا مثل قضية والد الجندي حمية، ووالد الجندي بزال.
لو كنا في بلد يؤمن فيه القضاء الحد الأدنى البديهي من العدالة، لقلت وبالفم الملآن للزميل حسن عليق: اخطأت. لكن الدروس التي علمنا اياها القضاء عبر تعامله (بالمعنيين) مع العملاء وملفاتهم، لم يكن الا دعوة الى استيفاء الحق باليد، باختصار الى شريعة الغاب.
لذا، وان كان هناك من يدان في دفع اللبنانيين الى الكفر بالعدالة وبالانصاف، والى يأسهم من استيفاء القضاء المسيس طائفيا لحقوقهم، ودفعهم الى تبني مواقف كتلك التي عبر عنها الزميل، فهو القضاء اللبناني ومن خلفه وقبله الطبقة السياسية الطائفية الفاسدة التي تضغط عليه وتبتزه وتشوهه.
كيف نستطيع محاسبة هذا القضاء؟ او بالأحرى كيف لنا ان نحاسب الفاسد من القضاء؟ لا اعرف. لكني اعرف شيئا واحدا: على اللبنانيين الا يبقوا بينهم عميلا واحدا. وعلى المقاومة التي تفادت الفتنة ان تتفاداها مرة اخرى اليوم عبر اجبار القضاء على القيام بواجبه. اما اذا ادى ذلك الى فض بعض الاتفاقات السياسية؟ فعلى المقاومة ان تعرف ان هذا الموضوع غير قابل للتفاوض، وان اي اتفاق مع اي جهة سياسية لبنانية يجب ان يجري على ارضية انصاف المظلومين بمعاقبة الظالمين والا... فإنه لكل حادث حديث.