كان رفيق الحريري يحلم ببيروت عاصمة مثالية تناسب ما يتصوره لعاصمة متوسطية. الرجل لا يعرف بنيان الدولة وأصولها بتاتاً، وكانت فكرته مخيفة حول ضرورة نسف كل ما يتصل بالرقابة العامة ودولة الرعاية. وعندما يجري الحديث عن العقد الاجتماعي الثلاثي بين الدولة والمواطن والقطاع الخاص، كان الحريري ينفي وجود الدولة، وينظر إلى النقابات العمالية كأدوات ابتزاز سياسية. أما القطاع الخاص، فكان في نظره يحتاج إلى تعديلات كبيرة، تجعله أقرب إلى منطقه القائم على الإنتاج السريع والربح السريع، ولو على حساب القانون.
سابقاً، لم يفهم رفيق الحريري معنى «الاستيطان الشيعي» عند مدخل بيروت

المشكلة في عقل رفيق الحريري ليست متصلة بكون ما فكّر فيه، ورد في سياق ما أعد للمنطقة مطلع تسعينيات القرن الماضي. يوم ركب الوهم عقل الغرب وبعض العرب حول سلام أكيد مع إسرائيل. وهو المنطق الذي جعل الحريري، طوال الوقت، على خلاف جوهري مع فكرة المقاومة. ليس صحيحاً أن الحريري كان يكره المقاومين، أو كان يفضل هزيمتهم. لكنه كان مقتنعاً بأن المقاومة غير ذات جدوى، وكان الرهاب من عقاب الغرب وإسرائيل يمسك بتلابيبه، وفي كل مرة كانت المقاومة تنجح في توجيه ضربة قاسية للعدو، كان الحريري يسأل فوراً عن الثمن وعن ردّ فعل العدو. وطوال عشر سنوات، وأكثر، كان الحريري ينجرّ غصباً نحو تفاهمات مع المقاومة، ليس سببها قوة المقاومة وحسب، بل تعثر المشروع السياسي الذي كان الحريري وجهه اللبناني.
في هذا السياق، فكّر الحريري في مستقبل بيروت، من زاوية أن الإمساك بقلبها يشكل خطوة حاسمة. ثم التفت إلى ضرورة الإمساك بمداخلها. ولذلك، فكر سريعاً في مشروعي جنوب المدينة وشمالها، أو ما عرف لاحقاً بمشروعي «اليسار» الخاص بالمدخل الجنوبي، و»لينور» الخاص بالمدخل الشمالي. وتفتقت عبقرية العاملين معه عن أوتوستراد دائري، يلتفّ من خلدة جنوباً حتى ساحل المتن شمالاً، مروراً بطريق الشام، ما يجعل العابرين لا يدخلون المدينة أصلاً. ومن يومها تفاقمت مشكلة الحريري مع المقاومة، لكن هذه المرة مع بيئتها اللصيقة، أو ما يعرف في القاموس اللبناني، بالشيعة.
لا طائل من المحاكمة الآن. لكن الحريري انتبه إلى أن تسوية المدخل الجنوبي للعاصمة، تفرض تعديلات جوهرية على الحياة العامة في المناطق الممتدة من الجناح وبئر حسن إلى الأوزاعي وأول خلدة، والاتجاه شرقاً حتى طريق المطار. وهو كان يعرف أن أمامه مهمة إعادة تنظيم حياة نحو مئة ألف مواطن، غالبيتهم من الشيعة، وبضعة آلاف من المالكين لعقارات تلك المنطقة، وقسم منهم من الشيعة. ولم يكن في بال الحريري سوى تجربة «وادي الذهب» في وسط بيروت. ولمن لا يعرف، حصل يومها أن أنفق الحريري من مال مساهمي سوليدير ومن صندوق المهجرين، نحو ربع مليار دولار أميركي، كبدل إخلاء بضعة آلاف من العائلات اللبنانية التي كانت تقطن منطقة وادي أبو جميل عند المدخل الجنوبي لوسط بيروت. وعندما ثارت اعتراضات ذات خلفية طائفية، على كونه ينفق الكثير على مهجرين شيعة يحتلون بيوت الآخرين، كان جوابه أن عائد العقارات سيعوِّض كل الخسائر. وفي المقابل، عبّر المهجِّرون، كما مرجعياتهم السياسية، عن نوع من الرضى نتيجة ما حصل، علماً أن التجربة تحولت إلى مدرسة في الفساد. حتى صار الناس يقولون: «وادي الذهب».
مشكلة الحريري، في ذلك الحين، أنه لم يفهم معنى «الاستيطان الشيعي» عند مدخل بيروت. لم يدرك جيداً البعد الاجتماعي والسياسي وغيره، لهذه الوصلة بين الجنوبيين والقاطنين منهم في الضاحية وجنوب العاصمة. أكثر من ذلك، رفض الحريري مراجعة خمسة عقود من محاولات كل من تعاقب على الحكم بعد الاستقلال، لقلع هؤلاء من تلك المنطقة. حتى حصل أن استمع إلى كلام واضح حول هذا الأمر، وكان علاجه الوحيد، إنشاء تجمعات سكنية في منطقة محاذية لطريق المطار شرقاً، مع مدينة للصناعات الخفيفة بمحاذاة مطار بيروت، لكن من الجانب الشرقي – الشمالي أيضاً. وكل ذلك، مقابل تحرير كل المنطقة الساحلية الواقعة غرب طريق المطار، وعينه كانت على الشاطئ الممتد من خلدة جنوباً، حتى الرملة البيضاء شمالاً. في ذلك الحين، تعرف الحريري إلى الراحل وليد عيدو، الذي كان قاضياً أنجز مشروع الاستملاكات في منطقة السان سيمون (أول الأوزاعي) بأسعار زهيدة جداً، قبل إعلان العقارات جميعها منطقة قيد الدرس.
حاضراً، يتصرف رجال أعمال شيعة كورثة لمشروع الحريري الأصلي

حصل الكثير يومها، وانتهى إلى تجميد المشروع. لكن الذي تكشّف في حينه، أن الحريري كان قد أعدّ مشاريع سياحية على طول الشاطئ المذكور، بما فيها شاطئ الرملة البيضاء. وهو تملك يومها العديد من العقارات، بينها العقارات التي يبيعها ورثته اليوم. وفي لحظة الصدام مع معارضيه في ذلك الحين، والذين كان يتقدّمهم المناضل المقدام نجاح واكيم، كشف عن مشروعه الخاص «نارا» الذي يقضي بإقامة مجمّع سياحي عند طرف المسبح الشعبي مع الامتداد جنوباً صوب السمرلند. وكان المشروع يقضي عملياً بالاستحواذ على العقارات موضوع المشكلة اليوم، وأرفقها بمقترح ربطها بمشاريع سكنية خاصة بالأثرياء، تبنى على المقلب الشرقي من الطريق. بما في ذلك، إقامة أنفاق تجعل هؤلاء يصلون إلى الشاطئ من دون الحاجة إلى عبور الطرقات. وبالتالي، كان الحريري ينوي حصر المسبح الشعبي بشريط ضيق، تحاصره إجراءات وأبنية ومنشآت، قبل أن يحاصره الأمن الخاص، ويحوله مع الوقت إلى منطقة ممنوعة على المواطنين.
حصل ما حصل، وتدخل القدر، أو ما يعادله، وانهارت إمبراطورية الحريري السياسية والمالية. وحصد جمهوره الخيبة تلو الخيبة. وعندما قرر ورثته تسييل العقارات والهروب بالمال بعيداً، وجد هؤلاء أنه لم يبق من يقدر على شراء هذه العقارات، سوى الخصوم الطائفيين، أي الشيعة. وفي حالة العمل والأعمال، لا تجد مكاناً للغة الطائفية، بل هناك لغة الدولار وحدها. لكن آل الحريري تجاهلوا عن عمد مصالح من يمثلون طائفياً عندما قرروا التضحية بأملاك، يعود بعضها إلى الناس أصلاً. وكان ما كان، وهي قصة لن تنتهي بقرار بلدية أو محافظ، بل ستكون محل جدال وصدام إلى أن تعود الدولة لتبسط سيطرتها وملكيتها التامة على هذه العقارات، التي سبق أن أوكل الاحتلال الفرنسي إلى سماسرة لبنانيين الإشراف عليها، فقاموا ببيعها في النصف الأول من القرن الماضي.

لكن ماذا عن الشاري الجديد؟

هنا، نعود إلى حكاية مشابهة. لكن مع فوارق أكثر خطورة. إذ إن نادي رجال الأعمال الشيعة الذي يضم من يتوسع عقارياً في العاصمة ومحيطها، ليس نادياً قام بصورة طبيعية. بل قام على سلسلة هائلة من مخالفات البناء، ومن تجاوز القوانين، ومن استخدام السلطة السياسية والأمنية والبلدية والقضائية لتسهيل أعماله التي درّت عليه مئات الملايين. والحديث هنا لا يشمل الذين يعملون في الاغتراب، لأن لهؤلاء حكاية أخرى مع ثرواتهم، وكيفية إنفاقها في لبنان. لكن مشكلة هذا النادي أنه تصرف بعقلية ثأرية، تعيد إلى الأذهان حكاية السود والبيض في الولايات المتحدة الأميركية. وتصرف بعض هؤلاء كما لو أن تملك هذه العقارات أشبه بعملية غزو أكثر منه عملية تجارية.
وحده نبيه بري يقدر على منع «النصب الطائفي»، وفتح الباب أمام استعادة الحق العام في العاصمة
أكثر من ذلك، إن أعضاء هذا النادي تركوا بيئتهم الأصلية، فلا هم يسكنون بلداتهم أو أحياءهم التي تربوا فيها، وباتت حياتهم اليومية ومطاعمهم وسياحتهم وثيابهم وأكلهم وشربهم، تتركز في المكان نفسه الذي بناه أسلافهم من المسيطرين على المقدرات العامة والخاصة في البلاد. بل يمكن الذهاب أبعد من ذلك، والقول إن من يسعى لبناء مشاريع ضخمة في تلك المنطقة، إنما يفكر بنفس طريقة تفكير رفيق الحريري، وهو يعمل على بناء منظومة إنتاج تخص فئة معينة من الناس، وتتطلب إبعاد الفقراء وأبناء الطبقات الوسطى، وتقتضي مخالفة المراسيم التي تعنى بالحق العام، ويريدون من الدولة أن تنفق على توفير البنى التحتية الملائمة لمشاريعهم فحسب (هو ملف سيفتح بتفاصيله البشعة). وأعضاء هذا النادي يتكلون حصراً على كون الشيعة، اليوم، يمسكون بحق الفيتو وأكثر، على صعيد إدارة الدولة. وهؤلاء، يريدون من نبيه بري أن يكون عراب مشاريعهم داخل الدولة، ومن حزب الله أن يكون السيف الذي يستقوون به. وعندما ينتهي بهم النهار، جالسين وحدهم، يكيلون كل أنواع الشتائم والغيظ ضد نبيه بري وضد حزب الله على حد سواء!
بالأمس، تدخل الرئيس بري، وساهم بقوة في تثبيت حق أبناء بيروت، واللبنانيين عموماً، في ملكية الشاطئ العام في الرملة البيضاء. وهو قبل أيام، أبلغ رجل الأعمال محمد سميح غدار أن عليه أن ينسى العقار التابع لعقارات المسبح الشعبي، الذي أراد شراءه من فهد الحريري. ويبدو واضحاً أن الرئيس بري يفهم أكثر من غيره البعد الاجتماعي والسياسي لـ»غزوة الرملة البيضاء» التي يقودها رجال أعمال شيعة، ولو أنهم يقولون بأن ما يقومون به ليس سوى عملية تجارية فقط. وفي حالة لبنان اليوم، ليس غير نبيه بري، من يقدر على منع هذا النصب والاحتيال الطائفي والمذهبي، ووضع حد، لعملية الاستغلال التي يقوم بها الحريري وأنصاره أيضاً!
بيروت لن تفيق من سباتها الطائفي والمذهبي إلا عندما تتوسع سلطة الدولة فيها، وفقط، عندما يكون الحيز العام، والقطاع العام، والحق العام، هو المسيطر على تفكير من يقودها سياسياً وإنمائياً واقتصادياً. وكل كلام غير ذلك، يبقي العاصمة مكاناً للاحتراب الاجتماعي والسياسي والمالي، ويجعلها مدينة مزيّنة بالقلق والبارود!