قبل نحو أسبوعين كانت الأجهزة الرسمية اللبنانية تلاحق في منطقة البقاع هدفاً أمنياً كبيراً. على مدى أشهر كان الهدف المذكور تحت المراقبة اللصيقة. أين يقيم، تنقلاته، طرقها ووسائلها، اتصالاته وأنواع أنشطته الإرهابية. في إحدى اللحظات، باتت المعلومات حول تورطه في التحضير لعمليات تفجير كاملة. بالوقائع والأسماء والتفاصيل. فصار الأمر بالقبض عليه منجزاً، لا بل ملحّاً وضرورياً. قبل ساعات من تنفيذ العملية، فوجئ المعنيون بوصول موكب من السيارات العائدة إلى إحدى المنظمات الدولية غير الحكومية، إلى منطقة وجود الهدف الأمني. كانت تلك المنظمة تعمل منذ نحو ثلاث سنوات مع النازحين السوريين هناك. تقدم لهم المساعدات وتعمل على التخفيف من معاناتهم ومأساتهم. وتؤمن التواصل بينهم وبين الهيئات الدولية العاملة على خط إعادة نقل البعض منهم إلى البلدان الغربية المستقبلة للاجئين. وكما معظم تلك المنظمات، كانت تضم في فرق عملها، قلة من الموظفين الأجانب، وكثرة من اللبنانيين العاملين معها للترجمة والتواصل والتسهيل... بين استعداد الأجهزة للانقضاض على "الهدف" ووصول موكب المنظمة الإنسانية، مرّ بعض الوقت الضائع. ليتبين في ختامه أن الهدف نفسه صار في إحدى سيارات الموكب، وأن زيارة تلك المنظمة إلى المنطقة بالذات كانت بهدف إخراج "الهدف" منها تحديداً. ليتبين عند التحقيق والتدقيق، بأن الهدف المذكور، يحمل صفة موظف لدى المنظمة المقصودة. وأنه بصفته تلك، كان يستعد للانتقال إلى الخارج لاجئاً في إحدى الدول. وأن كل الترتيبات كانت معدة لسفره على وجه السرعة. من حجز غرفة له في أحد الفنادق في محيط بيروت، انتهاء بتذكرة السفر وأوراق اللجوء... مجموعة كبيرة من المصادفات، سقطت في اللحظة الأخيرة، قبل أن يلقى القبض على الهدف، وهو في طريقه إلى الهرب، أو الأخطر، إلى تحوله إرهابياً في بلد غربي، ينتظر لحظة الانقضاض على الأبرياء هناك.بين هذه الواقعة المثبتة وبين جريمة القاع أمس أكثر من رابط وعلامة استفهام. فعلى مدى الأشهر الماضية، كان واضحاً تراجع الأنشطة الأمنية والعسكرية لإرهابيي الحدود. أسباب كثيرة وعوامل عدة أعطيت لتفسير ذلك الواقع. قيل إن قسماً منهم انتقل إلى الداخل السوري للانضمام إلى سلسلة المعارك التي تخوضها مجموعاتهم على مختلف الجبهات السورية. خصوصاً في ظل اشتداد الحرب عليهم هناك، بين التحالفين الدوليين، روسيا والجيش السوري وحلفائه في الشمال والشرق، والأكراد والتحالف الغربي في بعض المناطق الأخرى. كذلك إن سلسلة الصراعات الداخلية بين المجموعات الإرهابية نفسها، أدت إلى إنهاك قسم منهم، وتصفية قسم آخر، ورحيل قسم ثالث إلى مرجعيات إرهابية أخرى وجبهات أخرى. حتى إن الانتخابات البلدية التي أجريت في المنطقة كانت مؤشراً على هذا الوضع الواهن للجماعات الإرهابية نفسها، إن لجهة حصولها بالشكل الآمن والمضبوط الذي تمت في أجوائه، أو خصوصاً لجهة نتائجها في أكثر من بلدية، وأهمها في عرسال نفسها. ذلك أن الفوز الذي حققه العرساليون المناوئون للمسلحين الإرهابيين، شكل دلالة واضحة على المزاج العرسالي المستجد من جهة، وعلى نجاح عملية نقل صناديق الاقتراع إلى مراكز الجيش من جهة أخرى، والأهم على تراجع سطوة السلاح الإرهابي على المنطقة إلى حد كبير.
عملية القاع أمس، تقع في منزلة ما بين المؤشرات السابقة كلها. فهي بلا شك خرق أمني جديد وكبير. يكفي أن يكون الإرهابيون لا يزالون قادرين على تجنيد نحو 10 انتحاريين دفعة واحدة، ليشكل ذلك دليلاً على الطاقة التخريبية التي لا يزال يمتلكها هؤلاء. فضلاً عن قدرتهم على الانتقال من مواقع تمركزهم البعيدة نسبياً إلى داخل بلدة آهلة كبرى. وهو خرق لا بد من أن تتوقف الأجهزة الأمنية عنده. خصوصاً بعد سلسلة تسريباتها المكثفة والمتكررة، عن إلقاء القبض على قادة مجموعات وعقول مدبرة ورؤوس مشغلة لشبكات التفجير أمراء تجنيد للانتحاريين. خرق يعيد إلقاء الضوء على أي مساعدة يمكن الإرهابيين أن يكونوا لا يزالون يتلقونها من أكثر من جهة داخلية أو خارجية، تسمح لهم بفك حصارهم وتنفيذ ضربات من هذا النوع.
كذلك فإن عملية القاع نفسها تقع ضمن مشهد آخر من المؤشرات، ألا وهو تحول الإرهابيين عن طريق عرسال صوب بيروت أو صوب مناطق بقاعية أخرى، والانتقال من منطقة مشاريعها إلى ضرب هذه البلدة. وفي هذه الخطوة، بعيداً عن التأويلات المذهبية أو الطائفية، مؤشر على تضييق الطرق العرسالية على الإرهابيين، بما ينسجم مع مؤشرات الانتخابات البلدية وما سبقها وما تلاها. يبقى مشهد ثالث، أن الإرهابيين في لحظة ضعفهم، يحاولون أن يستعرضوا قوة مزعومة، ويجهدون إلى تقديم عرض قوة يموه حقيقة أوضاعهم. وهو ما قصدوه ربما بتجنيد رهط انتحاريين معزز كامل. في مسعى منهم إلى التضليل حول حقيقة ما بقي من قوتهم، واعتماد الهجوم وسيلة للدفاع عن حجم آخر فلولهم.
لكن يبقى المؤكد أن المعركة مع الإرهاب مستمرة، وأن المزاح والاستعراض والاستخفاف لا ينفع معها.