بحسب الفقرة (د) من مقدمة الدستور البناني، يُفترض أن الشعب هو مصدر السلطات وصاحب السيادة يمارسها عبر المؤسسات الدستورية. ويوم تسنّى للمجلس الدستوري اللبناني تبيان كيفية ممارسة الشعب للسيادة، رأى أن السلطة المشترعة في سنّها تشريعات إنما تمارس السيادة الوطنية (م. د. قرار رقم2/2001 تاريخ 10/5/2001)، وأن سلطة التشريع، والمقصود سلطة سنّ القوانين، سلطة أصيلة ومطلقة وقد حصرها الدستور بهيئة واحدة دون غيرها، هي مجلس النواب، وأن هذه السلطة هي حق من حقوق السيادة التي تستمد مصدرها وقوتها وشرعيتها من الشعب الذي يمارسها عبر المؤسسة الدستورية التي تتولاها، أي مجلس النواب (م. د. القرار 3/2001 تاريخ 29 أيلول 2001). وفي المجال الدولي أصبحت السيادة تعبيراً عن قدرة الدولة على التعهد والحصول على تعهدات الدول الأخرى، للتوصل معها إلى القواعد الراعية لإقامة علاقات متبادلة في ما بينها. وهذه العلاقات لا تقيمها كل مؤسسة في الدولة بمفردها، بل ترتبط العلاقات الخارجية حصراً بالإدارة المركزية، إعمالاً لمبادئ القانون الدولي المكرّسة في المادة الأولى من الدستور اللبناني التي تنصّ على أن "لبنان دولة مستقلة ذات وحدة لا تتجزأ وسيادة تامة".لهذا، إن التزام لبنان تعهداتٍ دولية، ولا سيما إذا كانت ماسّة بحقوق المواطنين، من اختصاص المشترع مع مراعاة الأصول المقررة في المادة 52 من الدستور لناحية المفاوضة وإبرام المعاهدات الدولية. وإقرار هذه التعهدات لا يكفي بمفرده لتصبح ملزمة للمواطنين، بل لا بدّ بعد ذلك من نشر النصّ الكامل للاتفاقية أو التعهد في الجريدة الرسمية. إذ يمتنع الاجتهاد اللبناني عن تطبيق أي معاهدة دولية إذا لم تكن صادرة وفق الأصول ومنشورة في الجريدة الرسمية، ويعتبر أن القواعد الشكلية التي يقرُّها الدستور هي أولى بالحماية من أي التزامٍ دولي، وأن تقصير الحكومة في نشر معاهدة هو أمر يدخل في إطار العلاقات والمسؤوليات الدولية. وأما القانون فلا يجوز ــ بنظر القضاء ــ التضحية به من أجل التزام دولي.
هذا هو واقع المعاهدات والاتفاقات الدولية التي لا تسري ولا تنال درجة النفاذ إلا بعد التصديق عليها ونشرها أصولاً (يراجع على سبيل المثال: قرار مجلس شورى الدولة رقم 838 تاريخ 9/11/1962، المحامي فؤاد الهراوي/ الدولة ــ م. إ. 1962 ص231).
فإذا كان هذا حكم المعاهدة، فكيف الحال بقانون أجنبي أقرّته سلطة تشريع غير لبنانية ولم ينشر في جريدة لبنان الرسمية، فكيف استطاع حاكم مصرف لبنان أن يجعل من هذا القانون الأجنبي جزءاً من التشريع اللبناني؟
حاولتُ البحث عن مبدأ يجيزُ لسلطاتٍ وطنية أن تطبّق مباشرةً قانوناً أجنبياً، فلم أعثر عليه إلا في المستعمرات. فحاكم المستعمرة يصدر تعميماً بتنفيذ قانون أجنبي، ولكن في دولة ذات سيادة هل يمكن حاكمَ مصرف لبنان أن يقرر بمفرده وبمعزلٍ عن سلطات التشريع تحديد أصول التعامل مع القانون الأميركي تاريخ 18/12/2015 وأنظمته التطبيقية؟
في المبدأ، إن تطبيق قانون أجنبي أو اتفاقية دولية عامة يحتاج إلى موافقة وإقرار مجلس النواب عملاً بقاعدة السيادة المشار إليها أعلاه، أو بتفويضٍ من المجلس على أقل تقدير. وحيث إن مصرف لبنان بموجب القرار رقم 12253 تاريخ 3/5/2016 قد وضع أسس التعامل مع قانون أجنبي (القانون الأميركي)، كان لا بدّ من البحث عن التفويض التشريعي لإصدار هذا القرار. ولكون الاختصاص يتعلّق بالنظام العام، فإن تدخّل مصرف لبنان عبر إصدار قرارٍ في شأنٍ من شؤون التشريع يوجب أن يكون هذا القرار مبنياً بصورة واضحة على تفويضٍ تشريعي.
لكن بالعودة إلى بناءات القرار، نجد أن مصرف لبنان لم يستشر مجلس شورى الدولة قبل إصداره، بالرغم من كون هذه الاستشارة إلزامية، وهذا ما يعيب القرار بعيبٍ جوهري يتمثل بتجاوز القضاء بالرغم من إلزامية استشارته. كذلك لم نعثر على التفويض التشريعي الذي نبحث عنه، فالمواد التي بنى عليها حاكم مصرف لبنان لقراره هي المواد: ٧٠ و١٧٤ و١٨٢ من قانون النقد والتسليف، والمواد 4 و6 و7 من قانون مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب رقم ٤٤ تاريخ 24/11/2015. وهذه المواد لا تتضمّن تفويضاً لمصرف لبنان من أجل اتخاذ هذا القرار، بل على العكس من ذلك، فإن القانون الأخير قد حصر بهيئة التحقيق الخاصة التجميد النهائي للحسابات المصرفية، ولهذا فالصلاحية هي لهذه الهيئة، إلا أن حاكم مصرف لبنان بموجب قراره قد أجاز للمصارف اللبنانية خلافاً للقانون إقفال حسابات أي مواطن لبناني دون الرجوع لأي جهة قضائية.
واليوم بعد قرار حاكم مصرف لبنان بإنفاذ قانون أجنبي مباشرة في المنظومة القانونية اللبنانية دون الرجوع إلى مجلس النواب، نسأل عن العائق أمام أي مؤسسة عامة لبنانية أخرى أن تقرر تطبيق قوانين أجنبية بموجب تعاميم يصدرها مديرها العام تحت ستار حماية المصالح الوطنية العليا.

* أستاذ القانون الإداري والدستوري في الجامعة اللبنانية