يوم أمّ مفتي الجمهورية الشيخ محمد رشيد راغب قباني صلاة الجمعة في السرايا الحكومية بحضور سفير المملكة العربية السعودية وحشد من سياسيي 14 آذار ، لم يدر في خَلَد أحد من اللبنانيين أن هذه الصلاة السياسية التضامنية ستتحول إلى خلوة دائمة ظهيرة كل يوم جمعة
مصطفى عاصي
منذ اليوم الأول لعقد صلاة الجمعة في السرايا، استطاع السنيورة الرئيس تكريس سابقة في تاريخ الجمهورية لم يجرؤ عليها قبله رئيس حكومة ولا أي مسؤول آخر. سابقة تقوم على إحياء شعيرة الصلاة بشكل متواصل على أرض رسمية تملكها الدولة!
وإذا كانت الصلاة الأولى قد جاءت تحت عنوان دعم الموقع السنّي الأول في الدولة ودعم شاغله ومعه حكومته، يوم بلغ الخوف أشده من احتمال إسقاطها على يد المعتصمين في وسط بيروت، فإن الصلوات اللاحقات جاءت تحت عنوان الخوف من مغادرة السرايا لضرورات أمنية وتأميناً للسلامة الشخصية للرئيس السنيورة.
مهمة المفتي قباني الأولى سرعان ما أُسندت لاحقاً إلى عميد كلية الشريعة التابعة لدار الفتوى الدكتور أنس طبارة. وفي قاعة مخصصة أصلاً للاجتماعات في الطبقة الأولى دأب طبارة على الصلاة الأسبوعية. كل نهار جمعة تُغّير القاعة هيئتها: قبل الصلاة تَخرُج الطاولات والكراسي وتُفرش الأرض بالسجاد وترتفع كلمات الدين من أحاديث وآيات قرآنية، وعند انتهائها تعود القاعة إلى طورها الأول، تسحب الحصر وتدخل الطاولات والكراسي وتسود كلمات السياسة والاقتصاد والمشاريع الحكومية.
على عكس خطبتي صلاة الجمعة الناريتين السياسيتين للمفتي قباني في صلاته الأولى، وتحذيره من أن المس بالمنصب الأول للطائفة السنية معناه المس بخطوط التوتر العالي الطائفية، تأتي خطب الدكتور طبارة (لا يلبس الزي الديني الرسمي) موجزة ودينية خالصة، تتحدث عن أمور السماء. المصلّون هم حَصراً من الموظفين السنّة العاملين داخل السرايا، وعلى رأسهم الوزراء، وكذلك من زوار الرئيس الذين يتزامن وجودهم مع حلول وقت الصلاة (آخرهم، قبل سفر السنيورة لأداء مناسك العمرة، سفير المغرب في لبنان). عدد المصلين يراوح في أغلب الصلوات بين العشرين والثلاثين، منهم على نحو دائم وزير الدولة خالد قباني الذي يوضح أنه ليس هناك دعوة للخارج أو للداخل (داخل أبواب السرايا) للمشاركة بثواب ركعتي صلاة الجمعة، وأنه لا هدف سياسياً لها، بل إن نية القائمين بها وعليها وفي مقدمهم السنيورة هي خالصة للرب. ويضيف قباني المحسوب سياسياً من حصة السنيورة أن الوضع الأمني المتوتر هو الذي فرض إقامة الصلاة في السرايا، وعندما تهدأ الأمور سيعود السنيورة إلى سابق عادته في تأديتها مع المؤمنين في المساجد. ويحرص قباني على التأكيد أنه لا يوجد مصلى في السرايا وأنه لا تقام فيها الصلوات الخمس اليومية بشكل جماعي.
هل العذر الأمني كاف وحده ليبرر للسنيورة إقامة الصلاة في السرايا؟ ألم يتحسن الوضع الأمني في الأشهر الأخيرة؟ وهل هذا الوضع هو الذي لا يسمح فعلاً، لمن يريد، بالانتقال مئات الامتار إلى أحد المساجد الكثيرة الموجودة في منطقة وسط بيروت المحمية، ومنها المسجد العمري الكبير ومسجد الأمير عساف ومسجد محمد الأمين ومسجد الأمير منصور؟ أليست علة جعل وقت الدوام الرسمي نهار الجمعة حتى الحادية عشرة قبل الظهر من أجل أن ينصرف الموظفون إلى صلاتهم؟ ألا ينسحب الخطر الأمني على جميع المسؤولين؟ فماذا لو أقام رئيس الجمهورية، مثلاً، قداساً كل نهار أحد في قصر بعبدا، أو أقام رئيس المجلس النيابي ندبة كربلائية في ساحة النجمة ودائماً بالحجة الأمنية ذاتها؟ هل تسمح الحساسية الإسلامية ـــــ المسيحية بأن يقيم نائب رئيس الحكومة الأرثوذكسي قداساً في السرايا، بغياب السنيورة، للموظفين المسيحيين؟
تنص المادة التاسعة من الفصل الثاني من الدستور على ما حرفيته:
«حرية الاعتقاد مطلقة، والدولة بتأديتها فروض الإجلال لله تعالى تحترم جميع الأديان والمذاهب وتكفل حرية إقامة الشعائر الدينية تحت حمايتها، على أن لا يكون في ذلك إخلال بالنظام العام. وهي تضمن أيضاً للأهلين على اختلاف مللهم احترام نظام الأحوال الشخصية والمصالح الدينية».
هل تبرر هذه المادة للمسؤولين اللبنانين استخدام المقار الرسمية لغير أغراضها؟ يجيب الخبير في الدستور اللبناني الدكتور وسيم منصوري بالقول إن الدستور ينص على أن الدولة تحترم الأديان ولكن ليس لها ديانة محددة، فلا هي إسلامية ولا مسيحية، وبالتالي فإن المنطق الدستوري يفرض أن تكون الدوائر الرسمية لكل اللبنانيين على اختلاف طوائفهم من دون أن يكون لطائفة ما الحق باحتكار مقر واستخدامه لممارسة شعائر دينية من أي نوع كانت. وعطفاً على ذلك، لا يصح أيضاً اقتطاع زاوية أو ركن من أي مقر لغايات دينية عبادية، إلا إذا كان ذلك مستنداً إلى أسباب استثنائية ومؤقتة، من دون أن تجعل هذا الاستثناء قاعدة».
ويقول نقيب المحامين السابق إن الدستور لم يتحدث صراحة عن حالات شبيهة بالتي تحصل في السرايا لأن واضعيه ظنّوا أنه لا حاجة لتفسير المُفسر ولم يتحسبوا إلى أن يوماً سيأتي وتتحول الدوائر الرسمية إلى مساجد وكنائس وصالات أفراح للأبناء .
منذ سنوات بدأت المقار الرسمية تستخدم لإقامة حفلات الزفاف وعقد قران الأبناء والبنات، وتزيّن في المناسبات الدينية، ولا سيما في أعياد الميلاد. ولم يعد الأمر يتصل بمبدأ ديني فقط، بل برمزية الدائرة الرسمية الجامعة لفسيفساء طائفية من ثمانية عشر لوناً.
ما هي النية الفعلية للرئيس السنيورة خلال إقامة الصلاة في السرايا؟ هل الهدف رباني خالص أم سياسي مرتبط بالخنادق المذهبية؟
يستشهد أحد رجال الدين السنّة بالآية القرانية التي تقول: «فلا تزكّوا أنفسكم، هو أعلم بمن اتقى». ويقول إن العبد له الحكم على الظاهر فيما الله يتولى السرائر، لذلك لا يمكن الجزم بباطن الرجل المعروف عنه إيمانه وتقواه ومواظبته على العبادة.
لكن رجل دين سنياً آخر يقول إن الصلاة في السرايا «لا ضير فيها إن لم تأخذ صفة الاستمرارية، لكن الاستمرارية حاصلة»، ويُسقط عن السنيورة الحجة الأمنية، سارداً الرواية الآتية: عندما جاء رسول كسرى إلى المدينة المنورة ورأى خليفة المسلمين عمر بن الخطاب نائماً في ظل دوحة من دون حراس قال له: عدَلت فأمِنت فنمت. والمقصود بتلك الرواية التي تحمل انتقاداً مبطناً للسنيورة أن احتراز الأخير غير مبرر إذا كان مرتاح البال إلى أنه يحكم بالعدل بين اللبنانيين.
ثمة حكم أو فتوى لدى بعض المذاهب السنّية تقول بأنه بعد إقامة صلاة الجماعة في مكان واحد لفترة طويلة دون أن يعترض صاحب الأرض التي تقام عليها تتحول الأرض التي تقام عليها إلى وقف لهذا العمل المخصوص (أي الصلاة)، وبما أن الصلاة على الأرض المغصوبة لا تصح، وأن «الوقف حسب نص الواقف»، فإن السنيورة القيّم الحالي على السرايا الحكومية قد حوّل هذه الصالة التي تقام فيها الصلاة إلى وقف لصلاة الجمعة والجماعة عندما أجاز فعل الصلاة، دون أن يكون قصده كذلك. ولكن مفتي جبل لبنان الشيخ محمد علي الجوزو يستغرب رواية كهذه ويقول إن الصلاة في السرايا إنما أُقيمت بحكم الضرورة «وهي استثناء وليست قاعدة، ومتى انتفى السبب يجب أن تتوقف»، ويضيف: «إذا كان المسجد الجامع الذي تقام فيه صلاة الجمعة لا يتسع للمصلين ـــــ وهذه حال معظم مساجد بيروت ـــــ فإنه تجوز إقامة صلاة الجمعة في مصلّيات خارج المساجد الجامعة، وهذا ما يحصل في السرايا الحكومية، وهذه المصليات لا تعدّ أوقافاً».


أفراح رسمية

شهد القصر الجمهوري في لبنان عصر السبت السابع من أيلول 2002 حفل زفاف ابن رئيس الجمهورية السابق إميل لحود، النائب إميل إميل لحود، والآنسة سابين طنبورجي.
دائرة المراسم في القصر الجمهوري شاركت في التحضير للزفاف وتوجيه الدعوات إلى المدعوين، وبذلك شهد قصر بعبدا للمرة الأولى في تاريخه، أي منذ إنشائه في الستينيات، إحياء حفل زفاف خاص. وقام مطران بيروت للموارنة بولس مطر بمراسم الإكليل.
وبعد تحويل السنيورة مقره في السرايا إلى مقر شبه دائم، عقد قران ابنه وائل فيها، وقد قال في إحدى المقابلات معه إن تلك الواقعة من الذكريات السيئة التي سيحملها معه مفضلاً لو عُقد القران في بيته الخاص.