لم تمض ساعات على عدوان القنيطرة، حتى ساد استنفار كامل على جانبي الحدود. في لبنان وسوريا، أطلقت المقاومة الإسلامية صافرة الإنذار، ودخلت كل وحداتها في برنامج استنفار متدرج، وصل ذروته في الساعات الـ 48 الماضية، مع شروع وحدات الحزب، المدنية والعسكرية، في تنفيذ خطة طوارئ تفرض إخلاء غالبية المراكز وإقفال المعسكرات وتعديل آليات التواصل وحجز كل عناصر المقاومة على مختلف المستويات. ترافق ذلك مع بدء البحث العملاني في الوحدات المعنية حول كيفة التعامل مع الاعتداء. كان واضحاً من الإجراءات، ومن صمت قيادة الحزب، ثم من خطاب نائب الأمين العام الشيخ نعيم قاسم، أن قرار الردّ اتُّخذ. وعندما بلغت الإجراءات الاحترازية ذروتها، فهم الجميع: نحن أمام احتمال اندلاع مواجهة كبيرة.
قيادات العدو، العسكرية والأمنية، دخلت في برنامج عملاني أيضاً. الفهم التقليدي للعدو لعقل المقاومة، دفعه إلى الاستنفار بطريقة خاصة. ركّز على نشر مزيد من القوات وتفعيل العمل الأمني والاستخباري على طول الحدود مع لبنان وسوريا، واستنفرت شبكات العملاء والمتعاونين من غير اللبنانيين لمدّه بمعطيات تساعد على فهم الخطوة المقبلة. نُقلت وحدات خاصة إلى الجليل والجولان، وكُلفت فرق خاصة التواصل مع المستوطنين، وجرى تسهيل «نزوح هادئ» من عدد من المستوطنات. كان العدو أمام معادلة صعبة: إبقاء الحياة طبيعية مقابل رفع الاستنفار.
على الجانبين، سادت قناعة بأن الردّ حتمي. لكن الجميع دخل في نفق الأسئلة الصعبة: ما هي طبيعة الرد؟ كيف سيحصل؟ أين؟ ومتى؟
الجديد، بالنسبة إلى العدو، ليس محاولة اختبار المقاومة في لعبة «قواعد الاشتباك»، بل قراءة فصل جديد في كتاب حزب الله، وهو فصل بدأت كتابته بعد احتدام الأزمة السورية. لم يعد العدو يتطلع إلى تراكم قوة الحزب، وتوقّفت عدّاداته عن إحصاء ما يصله من صواريخ وأسلحة. انصبّ الاهتمام على النوعية، وعلى مراقبة الخبرات المتراكمة جراء الحرب في سوريا، وعلى التبديل الجوهري في العقيدة القتالية، حتى بات الإسرائيليون يتساءلون علناً: متى يحين دورنا؟
وفيما كان كثيرون يتناقشون في سبب إعلان خطاب متأخر للسيد حسن نصرالله، كان هناك من يسأل عن الاعتبارات التي تحدد طبيعة ردّ الحزب وتوقيته. ومهما قيل أمس، وسيقال لاحقاً، فإن أحداً لم يجزم بأنّ الردّ سيسبق الخطاب. وتنفيذ المقاومة لعمليتها أمس، فتح الباب أمام أسئلة من نوع مختلف، ولو أن بعضها بديهي.
هل قلت نتوقع؟
بات معروفاً أن قيادة المقاومة فتحت تحقيقاً مفصلاً في اعتداء القنيطرة. النتيجة الأولية الواضحة أن العدو غامر بعملية غير متوقعة. وبالتالي، فإن البحث في الإجراءات المتخذة من قبل المقاومين، ستكون محصورة في القسم المعلَن مسبقاً، أي في الإجراءات التي احترمها المقاومون بناءً على تحذيرات سابقة أعطتها المقاومة للعاملين في منطقة الجولان. وهذا أمر له بعده العملياتي.
ماذا فعل العدو؟ استنفار كامل عسكري وأمني وشعبي وإعلامي. وهو لا شك لاحظ، مباشرة أو من خلال منظومة التجسس، إجراءات واضحة من قبل المقاومة. لم يكن التقدير في شأن الرد متأرجحاً بين حصوله أو عدمه، بل حول توقيته وطبيعته. أكثر من ذلك. تعرف إسرائيل جيداً أن المقاومة لم تبادر يوماً إلى الضرب بغير توازن وتناظر، وبالتالي تدرك أن الهدف هو عملية عسكرية، ولو كان لها طابع أمني. وتعرف أيضاً أن «الماء النظيف» لوجه المقاومة، لا يدفعها إلى مسارح بديلة، وأن صورة المقاومة القوية مستمدّة أساساً من المواجهة في المكان الصح. يعني هذا أنه كان في مقدور العدو تقدير مسرح العملية على طول الحدود الشمالية مع لبنان وسوريا. مع ذلك، فإن موكباً عسكرياً وقيادياً (مع ما يحتمل ذلك من إجراءات أمنية) تعرض، في وضح النهار، ليس لتفجير عبوات ناسفة يمكن مقاوماً وحيداً أن ينفذها، بل لعملية قنص بصواريخ موجهة ضد الدروع تستدعي قيام مجموعة بها. وهذا يعني، ببساطة، أن لهذه قوى تغطية وإسناد وخلافه. مع ذلك، لم يستطع العدو حصر الدائرة، وجاءته الضربة في منتصف الوجه.
هل قلت بغضب ساحق؟
بعد تنفيذ عدوان القنيطرة، سارع العدو إلى التهويل على لبنان وسوريا والمقاومة بأن ردّه على أيّ عمل عسكري سيكون قاسياً وقوياً، وصولاً إلى ادعاء البعض أنه سيكون فورياً. هذا يعني أن العدو أعدّ خططه قبل التصديق على عملية القنيطرة، لأنه، بحسب المنطق، كان يتوقع رداً من المقاومة، وبالتالي يفترض أنه أعدّ في المقابل رداً مضاداً. ولكن ما الذي حصل أمس؟
أُبلغت قيادات العدو عن عملية لحزب الله على الحدود الشمالية. وخلال وقت قصير، تحدّدت طبيعة الهدف وحجم الخسائر. وعندما انعقد المجلس الأمني، كان يفترض أن يظهر لجمهوره خططه البديلة. لكن من ارتكب حماقة القنيطرة بقي أسير التقديرات الخاطئة. وبدل التهور في عمل مباشر رداً على الصفعة – الإهانة، لجأ إلى أسلوب، نعرفه، يقوم على تبرير عملية المقاومة وتقدير حجمها وإمكانية الردّ عليها والاحتمالات المفتوحة بعد الردّ. والخلاصة الرئيسية من المداولات الإسرائيلية حتى ليل أمس، تقول إن إسرائيل ستحاول القيام بعمل، ولكن ضمن سياق يأخذ بالاعتبار الحقائق الآتية:
أولاً: أي قرار بالتصعيد يجب أن يحظى بتغطية سياسية عامة داخل الكيان وخارجه، وخصوصاً من جانب الولايات المتحدة.
ثانياً: ويجب أن يأخذ في الاعتبار رسالة حزب الله الواضحة بأنه مستعد للذهاب بعيداً في معركة تثبيت قواعد الاشتباك الجديدة.
ثالثاً: ويجب أن يأخذ بعين الاعتبار رزمة من المصالح الداخلية والإقليمية والدولية التي تتطلب مشاورات إلزامية مع الحلفاء والأصدقاء.
عملياً، عندما تلجأ الجيوش إلى توسيع دائرة المشاورات، وتأخذ وقتها في دراسة الردّ، فإن النتيجة الفعلية هي أن إسرائيل ليست مستعدة تماماً. وهذا يعزز الاعتقاد الذي برز يوم نفذت جريمة القنيطرة، بأن العدو لم يكن جاهزاً تماماً للخطوة التالية. وهذا يعني، باختصار، أن هدف عملية القنيطرة السياسي والأمني والميداني سقط!
هل قلت جنون؟
في جانب متصل، يحلو للمتطرفين من جانبي الحدود الحديث عن جنون قد يسيطر على العقل القيادي في مقاربة ما يحصل. لكن هل كان الأمر على هذا النحو فعلاً؟
طبيعة العملية تشير إلى أن المقاومة كانت في حالة جهوزية. لكنها كانت أيضاً في لحظة ارتياح ميداني. وهنا، نطرح السؤال الآتي: هل كان بمقدور مجموعة المقاومة تدمير كامل الموكب الإسرائيلي ولم تفعل ذلك عمداً؟ وهل تعمّدت توجيه ضربة مؤلمة، ولكن «ليست ناجحة بأكثر مما يجب»، بإفناء كل من كان ضمن الموكب؟ ألم تعمد المقاومة، قبل أيام، إلى تفجير شرك من العبوات الخاصة جداً بمجموعة كبيرة من عناصر المجموعات الإرهابية في سوريا، وعلى بعد كيلومترات من الحدود مع الجولان المحتل؟
من قال إن المقاومة لا تملك تعويذة تتيح لها إيلام العدو، ولا تسمح له بالهروب إلى حرب واسعة؟
لكن، هل يقدر العدو على ممارسة الجنون؟ طبعاً لا. أمس، عندما بالغ الإسرائيليون في قصف مناطق قريبة من منطقة العملية، وأخرى في الأراضي اللبنانية المحررة، قصف حزب الله مناطق إسرائيلية بالطريقة نفسها التي استخدمها العدو. فعل ذلك بإصرار من يريد إفهام العدو أن حق الردّ على أي ردّ قائم ومفتوح. وبدل المزيد من التكهنات، جاء عنوان بيان المقاومة واضحاً ومباشراً: بيان رقم - 1.
وغداً يوم آخر...
تعلّم العدو، أمس، تعلم درساً جديداً في مسار تعليمي طويل، ومفاده أن المقاومة تصرفت بوصفها جزءاً من محور منخرط في معركة واسعة. وهي، بردّها على العدوان، دخلت عملياً في المرحلة الجديدة من الصراع. مرحلة لم تبدأ قبل عشرة أيام، بل منذ وقت طويل. وبالتالي، المتوقع من جانب العدو أن يتصرف من الآن فصاعداً بطريقة مختلفة. وربما وصلته أمس الترجمة العملانية لما أعلنه السيد نصرالله بأن محور المقاومة بات في موقع المسؤولية المشتركة عن التعامل مع الجنون الإسرائيلي. ولذلك، من المناسب أن يتخيل ما الذي يمكن أن يحصل إذا أراد أن يجرّب حظه مجدداً؟
يخطر على بالي، إن قرر العدو توسيع المواجهة، أنه سيكون عليه توقع المزيد من الضربات القاسية بما هو أشدّ من الأمس. وإذا ما تورط في عمليات خاصة داخل سوريا أو لبنان، فعليه انتظار الردّ. وإذا وصل إلى حافة الهاوية، وقرر شنّ حرب برية على حدود الجولان المحتل وليس في جنوب لبنان، فليتوقّع ملاقاة المقاومة هناك. أما ما قد لا يخطر على باله، ويخطر على بالي، أن عشرات الآلاف من عناصر الحرس الثوري الإيراني سينتقلون بكل عتادهم وسلاحهم إلى نقطة المواجهة فوراً!