فداء عيتاني في اللحظة التي يودّع فيها جزء من المسلمين الحركيّين أحد أهمّ صنّاع نهضتهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية، التي بدأت في ثمانينات القرن الماضي، فإن جزءاً آخر من المسلمين يودّع طائفته، بما بقي لها من صدقيّة وصورة حسنة لا يستقيم دين ومرجعية روحية من دونهما.
وفيما كان يجري إنزال جسد العلّامة محمد حسين فضل الله إلى اللحد، كان البعض في داخل الطائفة المأزومة الأخرى يتحدّث عن السقوط من الحضيض إلى الحضيض الأعمق، ويضيف «كأنْ لا قعر لهذه الهاوية»، وكلّ ذلك وهناك من لا يزال يعطي إبر التخدير للمواطنين اللبنانيين ولأبناء هذه الطائفة، وخاصةً في مجال الهدر والسرقات المالية والفساد وصرف السلطة والنفوذ، ومن لم يشارك في عملية تخدير الرأي العام، ومحاولة سحب ملف الهدر في دار الفتوى من التداول، عمل على تلميع صورة الموظف الديني من الفئة الأولى، الذي أهدر وابنه ما أهدر، وسلب ما سلب، وعاد للدفاع عنه، وترك له المجال ليعظ الناس بالعفّة والروح النضالية وقضية فلسطين، وربما سيعظ غداً بنظافة الكفّ أيضاً.
ما يعانيه علماء الدين المسلمون من مصائب بات فوق ما يُحتمل لدى بعضهم، هم مدانون سلفاً بين الناس بجريرة وزر رئيسهم في الوظيفة، وفوق ذلك لا يجرؤون على البوح بما لديهم، لا فقط على مستوى المعلومات التي قد تطاولها شروط سرية وظيفية كأيّ وظيفة عامة، بل أيضاً ممنوع عليهم الإدلاء برأيهم في كل ما يجري حولهم، رغم أنهم مطالبون من جمهورهم، الذي يسمع خطبهم ومواعظهم، بإعطاء تفسير لما يجري في عقر دار المرجعية الدينية.
هذا من ناحية من لا يجرؤون على الكلام بعدما تعرّضوا لتوبيخ وتهديد من مرجعيتهم الدينية.
أما من ناحية من يحاولون التأثير في القرار السياسي، الذي يحافظ على المرجعية في مكانها، رغم كل ما قامت به هذه المرجعية من تعريض للموقع وتشويه لصورته، فإنّ بعض علماء الدين يسعون إلى رفع دعوى عزل متولّي الوقف، ويبدو أنّ في طليعة هؤلاء الشيخ يوسف الغوش، الذي لم يكفّ يوماً عن مقارعة مرجعيّته الدينية والوظيفية، ولكن بين علماء الدين من يشكّكون في جدية هذه الدعوى، وخصوصاً أنه يُفترض أن تحظى بإجماع أو على الأقل بشبه إجماع بين علماء الدين من الصف الأول في الدار المعنية بشؤون الطائفة. وتالياً، إن تقدّم أحد العلماء أو عددٌ ضئيل منهم بهذه الدعوى فقد لا يؤدي ذلك إلى النتيجة المرجوّة.
وفي مستوى آخر، فإنّ رئيس الحكومة السابق فؤاد السنيورة استعاد خطته الهجومية، فبدلاً من تسهيل عمل التعديلات التي طالب بها أكثر من رئيس حكومة، وبدلاً من أن يتعامل مباشرةً وبفعّالية مع رئيس الحكومة الأسبق نجيب ميقاتي، سواء عبر الاستجابة لطلبات عقد الاجتماعات، أو للإسراع في مناقشة اقتراح الهيكيلة الجديدة لدار الفتوى وتعديل قانونها، أو عبر عقد جلسة لمناقشة الخلاصات التي توصّلت إليها شركتا التدقيق المالي، فإنّ السنيورة ينحو اليوم للدفاع عن وضع المرجعية الدينية، والمماطلة والتسويف في ما يتعلق باستقالة هذه المرجعية، كما بتأجيل موعد الاجتماع المرتقب للبحث مع رؤساء الحكومات السابقين في هذا الشأن، وهو اجتماع كان يُفترض أن يعقد منذ أشهر طويلة، ولكن ما دام بعض رؤساء الحكومة السابقين يرون أنّ ميزان القوى لمصلحة السنيورة فإنّ السنيورة نفسه يتصرّف على قاعدة أنه «تفرعن ولم يجد من يردّه»، على الرغم من أنّ بداية العمل على تصحيح الوضع في دار الفتوى كانت في ظل ميزان قوى أشد اختلالاً من الواقع اليوم، وعدة عمل الرئيس سليم الحص يومها لم تكن أكثر من رسائل داخلية ناصحة للمرجعية بتوضيح موقفها.
وعلى الرغم من أنّ المرجعية الدينية أقرّت بما نسبه إليها التقرير المالي، وبدأت بإعادة نحو نصف مليون دولار من قيمة الهدر البالغة ملايين عدّة، فإنّ التقرير المالي نفسه يبدو أنه لم يصل إلى كل رؤساء الحكومات السابقين، بل بقي أسير رجلين وثالث لا يرغب في متابعة شؤون الحكم إلا من الطائرات.