انتهت مهلة الـ 72 ساعة التي أعطيت للسلطة السياسية لتبدأ بتحقيق مطالب الحراك الشعبي، فقرر الحراك وجهة التصعيد: الاعتصام المفتوح داخل وزارة البيئة حتى يعلن وزير البيئة محمد المشنوق استقالته. حوالى 50 شاباً وشابة صعدوا الى الطبقة الثامنة في مبنى العازارية، كانوا عزّلاً، سلميين، افترشوا الممر الأساسي في الوزارة، ولم يدخلوا أيٍاً من المكاتب، ولم يعيقوا عمل أي من الموظفين، فقط كانوا يهتفون ضد المشنوق وضد الطبقة السياسية الفاسدة.
الدخول الى مقر الوزارة كان مهمة سهلة، لم يلتفت أحد من العناصر الأمنية المكلفة بحماية المبنى إلى أعداد كبيرة دخلت. وسرعان ما انتشر بعدها خبر عاجل يفيد عن «اقتحام» الطبقة الثامنة من مبنى العازارية، فسارعت القوى الأمنية والصحافيين للوصول الى المبنى. القوى الأمنية حاولت فور وصولها طرد الصحافيين، إلا أنها لم تنجح في ذلك. وبعد مرور وقت قصير، أوفد المشنوق أحد مستشاريه لإبلاغ المعتصمين رسالة يطلب فيها التفاوض مع ممثل عن الشبان، إلا أن المعتصمين رفضوا أي تفاوض، مصرّين على مطلب الاستقالة.
في هذا الوقت، كان لدى المشنوق فرصة لمغادرة مكتبه في الوزارة، لكنه رفض ذلك، علماً بأن المعتصمين حرصوا على عدم إغلاق الممرات المؤدية الى مكتبه. وزير البيئة، الذي رد في السابق على طلب الاستقالة بالقول إنه لن يتخلى عن مسؤولياته في الوزارة، أعلن في وقت لاحق تنحيه عن كل ما يتعلق بأزمة النفايات. هذا «الالتفاف» على المطالب على حد وصف المعتصمين، زادهم إصراراً على ضرورة استقالة المشنوق، ليس لكونه المسؤول الوحيد عن أزمة النفايات، بل لكونه الوزير المعني الذي لم يستطع إيجاد حل لأزمة النفايات، وبالتالي باتت محاسبته واجبةً، على أن تطاول التحركات التصعيدية المقبلة متورطين آخرين في هذا الملف، وفي ملفات أخرى.

الاعتصام كان
سلمياً من أوله إلى آخره لولا العنف من جانب القوى الأمنية




رفض المشنوق مغادرة الوزارة قبل خروج المعتصمين منها، وحوّل المسألة إلى تحدّ بين الطرفين. هو التزم مكتبه مع حماية أمنية مشددة، والمعتصمون طالبوه بإعلان استقالته. تطور الأمر تدريجاً، فقد حُشر المعتصمون في ممر ضيق، وجرى سد منافذ الهواء عنهم، ثم أطفئت مكيفات الهواء، وقطعت الكهرباء وأغلقت أبواب الحمّامات... بدا أن هناك محاولة لخنق المعتصمين لإجبارهم على فض اعتصامهم. بعد مرور ساعات من المقاومة، تمت الاستعانة برئيسة حزب الخضر ندى زعرور لإقناع المعتصمين بالمغادرة من دون تحقيق مطلبهم. حضرت زعرور برفقة قائد شرطة بيروت محمد الأيوبي، دخلت مكتب الوزير، ثم خرجت للقاء المعتصمين والتفاوض معهم. قالت إن الاعتصام طريقة غير مقبولة في التعبير، وسعت إلى إقناعهم باستبدال هذا الشكل من الحراك بعقد لقاءات على طاولة مستديرة مع المشنوق. المعتصمون لم يستمعوا لزعرور، وكانوا يهتفون «ارحلي ارحلي» و»كلاب السلطة لبرا» حتى غادرت المبنى. فعدا عن اعتراضهم على الطريقة التي حضرت فيها الى المكان، كان هناك تساؤل حول الدور الذي لعبه حزب الخضر على مدى سنوات في ملف النفايات.
بعد فشل كل المساعي في ثني المتظاهرين السلميين عن فض اعتصامهم، بدأت قوات مكافحة الشغب وعناصر قوى الأمن بمحاصرة المداخل المؤدية الى محيط مبنى العازارية، وخاصة بعد بدء توافد متظاهرين متضامنين مع المعتصمين داخل الوزارة. ثم أدخلت أعداد كبيرة من عناصر مكافحة الشغب الى داخل المبنى، وصعدوا الى الطبقة السابعة، وحاصروا المعتصمين من كل الجهات.
في هذا الوقت، صرح وزير الداخلية والبلديات نهاد المشنوق بأنه يمنح المعتصمين مهلة نصف ساعة لإخلاء المبنى، كونه بات «محتلاً» بحسب زعمه، لكن لم يحصل أي شيء بعد مرور هذه المهلة، فيما أكّد العميد الأيوبي، غير مرّة، أنه ليس هناك أي أوامر لاستخدام القوة لفض الاعتصام، وكذلك تعهد وزير الداخلية أيضاً بأن «لا تعامل بالقوة مع المعتصمين داخل وزارة البيئة».
لكن الغدر كان من نصيب المعتصمين والصحافيين. بدأت القوى الامنية أولاً بطرد الصحافيين بالقوة من مكان الاعتصام، نجحت في إخراج عدد من المصورين والمراسلين، إلا أن عدداً قليلاً من الصحافيين أصرّوا على البقاء، من بينهم مراسلة قناة أل بي سي فتون رعد التي كانت في بث مباشر طوال الوقت، ومراسل «الأخبار» ومراسل إذاعة الجرس، والإعلامي جو معلوف. طلب مراراً من رعد وقف البث، لكنها تابعت ممارسة عملها الصحافي، رغم المحاولات الأمنية لسحبها من المكان، الى أن قام أحد عناصر استقصاء بيروت بقطع شريط البث المباشر. ورغم ذلك، استمرت رعد بالتغطية عبر الهاتف، كذلك كان يفعل زميلها في إذاعة الجرس. لكن أحد الضباط استدرج رعد لإخراجها من المكان، فبعدما كانت تعطي رسالتها على الهواء، طلب محادثتها جانبياً، ولحظة وقوفها (بعدما كانت جالسة أرضاً) عمد هذا الضابط بمؤازرة من العناصر الأمنية إلى إجبارها على الخروج من المكان، مستخدماً العنف بحقها، ليقوموا بعد ذلك بملاحقة المعلوف ومراسل «الأخبار» و»إذاعة الجرس» وضربهم وركلهم لإجبارهم على الخروج.
بعد وقت قصير من إخراج الصحافيين من المبنى، نفّذت القوى الأمنية خطّة متدرجة لإخراج المعتصمين تباعاً، البعض منهم تعرض للضرب المبرح بالهراوات، والبعض الآخر رمته القوى الأمنية على أدراج مبنى العازارية ليتدحرج، وهناك من خرج محملاً من قبل فرق الإسعاف، أحدهم كسرت يده، وآخر خُلعت كتفه، كما حصلت حالات إغماء عدة في صفوف المعتصمين، ولم يسلم أي ممن خرج من مبنى العازارية من «تشبيح» عناصر مكافحة الشغب. وفي النهاية، نجحت القوى الأمنية في إخلاء وزارة البيئة من المعتصمين بالقوة والعنف المشهودين، في حين كان وزير الداخلية لا يزال يصرح بأنه لم يعط أوامره باستخدام الخشونة في فض اعتصام كان سلمياً من أوله الى آخره.