ابنة البقاع الغربي أنا. ذاك السهل الملوّن كقوس قزح على الارض أعطاه فلاحو منطقتي وأعطاهم الكثير. كنا نذهب إليه مع جيراننا الفلاحين، وكانوا يوماً كثراً، لنلهو على بيادر القمح والاكياس الممتلئة ذهباً، نقطف عرانيس الذرة بفرح، ونأكل البندورة الحمراء من أرضها بلا حاجة إلى غسلها، ونقفز بين شتول «المقتي» في مواسمها. ذكريات لا تمحى، علّقتني بأرضي كثيراً، لكن حالما بلغت اضطررت إلى ترك البقاع في اتجاه بيروت، والسبب هو: شح الكليات والجامعات في منطقتنا. حالي هي حال كثر من أبناء منطقتنا.
هذا سبب أول لترك أبناء السهول والاطراف مناطقهم. ومع مرور الزمن خفّت أعداد الفلاحين كثيراً. إبن الفلاح لم يعد فلاحاً، وبالتالي لم تعد هويته متعلقة بالارض. وهنا الحديث يطول. فالزراعة تراجعت بسبب ارتفاع أسعار المواد الكيميائية والسماد والعدّة الزراعية، وبسبب المردود الضئيل للزراعة، والدولة تتحمّل الجزء الاكبر من المسؤولية، لأنها لم تدعم المزارع كما يجب، ولم تلحظ في سياساتها الاقتصادية تطويراً للقطاع الزراعي. زد على ذلك ان الحربين السورية والعراقية جعلتا التصدير إلى الدول العربية يتراجع. وبالتالي فضّل أبناء المنطقة من الاجيال الجديدة التوجه إلى الوظيفة في القطاعين العام والخاص، وإلى السلكين العسكري والأمني لأنها «مضمونة» أكثر كما يقولون، وتؤمّن لهم مردوداً ثابتاً. ولعدم تطبيق الدولة اللا مركزية الإدارية يد أيضاً في «مصيبة» إبعاد البقاعيين عن أرضهم. كل شيء بعيد عنهم. يشعرون بأنهم متروكون فذهبوا هم إلى حيث لا يشعرون بذلك. المقال الصغير لا يكفي لكتابة قصة «إبعاد» الشباب عن أرضهم. هي قصة انسلاخ، للاقطاعية وملكية الاراضي دور فيها وللحروب المتتالية دور كذلك، اما الدولة، فتتحمل المسؤولية الكبرى. والنتيجة أن الأجيال الجديدة لا تلهو على بيادر القمح، وبالتالي لا تتمتع بالارض حتى تشعر بالتعلق بها. ابن الفلاح لم يعد فلاحاً