من المفروض ما أن يسمع الشخص باسم "جواز السفر" حتى يخطر بباله البلدان التي يريد التوجه إليها إما لمتعة السياحة أو لأغراض لها علاقة بفرص العمل والعلم. لكن بالنسبة لنا نحن الفلسطينيين، صار جواز السفر كمن يحمل معه لائحة اتهام جاهزة لا يدري متى يتم القبض عليه بموجبها، أو توقيفه لساعات في دوائر الأمن العربية للاشتباه بالجنسية.
العديد من أبناء الشعب الفلسطيني المنتشر في بلاد الله الواسعة، ممن يحملون هذه الوثائق التي لا تزال مكتوبة بخط اليد في زمن التكنولوجيا والمكننة، باتوا يتوجسون خيفة من حمله أو إظهاره. أما الحصول عليه؟ فطبعاً "بدها شي شهر أو أقل شوي"، نتيجة الروتين في الدوائر، هذا طبعا إذا كنت "نظيفاً"، يعني؟ "ما في عليك ولا نقطة، ولا شبهة" ولا تحتاج لمراجعات دوائر الأمن العام ليتم التأكد من حضرتك. وما أن تمسك بالجواز أخيراً، حتي ينتابك شعور وهمي بالقدرة على التنقل من مكان إلى آخر. أما المثير للسخرية فأن تستنتج بالتجربة أن جواز السفر هذا، غير مخصص للسفر! أو حتى في بعض الحالات يكون وسيلة ضدك للحرمان من حق البحث عن عمل أو علم أو حتى إقامة.
ومع أن هذا الجواز من المفروض صادر عن دولة أنت مقيم فيها منذ ما يقارب 67 عاماً، وعلى الصفحة الأولى منه، يطلب من الجهات المختصة تسهيل مرورك، إلا أن البعض في أجهزة الأمن في المطارات يتعاملون معك بموجبات غير منصوص عليها إلا في العقول المخابراتية أو العنصرية، كأنك بالفعل المجهول القادم من كوكب آخر.
تبدأ من وقوفك في الطابور المخصص للأجانب، "ويا ويلك إذا غلطت ووقفت في طابور العرب أو المواطنين"، فإن غضب الله ينزل عليك، إلى السؤال المعتاد "لوين رايح، وشو رايح تساوي؟ الخ..."، وعليك أن تتحمل احتمال الإقامة في قاعات الانتظار ساعات أو أيام، لا بل أشهر في بعض الحالات. الإرباك في عيون المسافرين "الطبيعيين" المسلّطة عليك، واستفساراتهم، والحيرة، والرهبة من نظرات رجال الأمن تتفحص شخصاً مشبوهاً لضبطه متلبساً بمحاولة السفر للبحث عن عمل، أو لمتابعة علم. حتى بات أحدنا عند إظهاره وثيقة سفره الشهيرة بسبب حجمها باسم "الملحفة"، يشعر برهبة وخوف لا يزولان حتى خروجه من آخر محطة في ترحاله.
معاناة أطلقت العنان لأسئلة أعمق من استعصاء الحصول على وثيقة بحجم دفتر الحساب المدرسي! أسئلة تصل إلى حد السؤال الوجودي، من أنا؟ من نحن؟ هل أنا إنسان بحق لي حق في العيش بكرامة والتنقل بحرية أم لا؟
منذ ما يقارب السنة انتشر خبر في وسائل الإعلام المحلية المختلفة، بأن المسؤولين في هذا البلد الكريم، وبعد مراجعات عديدة من المرجعيات الفلسطينية المختلفة قرروا واتكالاً منهم على الله، وعلى بعض التمويل من مصادر أوروبية، مكننة جواز السفر الفلسطيني، إضافة إلى الهوية التي تشبه بحجمها أيضاً جواز السفر.
تنفس الناس الصعداء وتوسموا خيراً، فغداً سوف تتسع جيوبهم لهذه البطاقة الصغيرة، ولجواز سفر صغير منمنم سوف نمتع أعيننا به، ونشعر معه ببعض الطمأنينة، إلا أن هذا الحلم/الوعد ذهب واختفى مثله كمثل وعود كثيرة سابقة بالحصول على بعض من حقنا كبشر في هذا البلد الكريم.
ومنذ أيام قليلة فقط تسرب إلى مسامعنا خبر نزل كالصاعقة على الكثيرين من أبناء شعبنا المهاجر في بلاد الله، بأن شركات الطيران لم تعد تقبل بوثائق سفر مكتوبة بخط اليد، ما يعني أن العديد ممن يعملون في بلاد الله لن يستطيعوا السفر، وهذا يعني إما فقدان عملهم، وإما بقاءهم في الخارج، حملات الحج والعمرة تتريث الآن في استقبال طلبات الحج والعمرة نظراً لخطورة هذا القرار.
يا أمة الله: يكفي الفلسطيني ما يعانيه في هذا البلد، بدءاً من حرمانه حقه في العمل إلى حقه بتملك بيت، وحقه في التعليم والاستشفاء، إلى تخلي الأنروا عن الكثير من واجباتها ومهامها التي أنشئت لأجلها، حتى يأتي همٌّ جديدٌ يضاف إلى همومنا. همٌّ خطير كون الجواز هو السبيل الوحيد المتبقي أمام الفلسطيني المحاصر هنا ليبحث عن عمل في بلاد الله يغنيه عن ذلّ السؤال.
فهل نحن أمام فصل جديد من فصول التضييق علينا؟ وهل إغلاق باب السماء بعدما أغلقت أبواب الأرض بما رحبت أمامنا، مؤامرة تضاف إلى سلسلة الاستهدافات من أجل طمس قضيتنا، ووجودنا، ودفعنا دفعاً إلى ركوب قوارب الموت والإبحار نحو المجهول؟ ألا يكفي هذا الفلسطيني التائه في صحراء هذا الوطن الكبير منذ ما يقارب القرن من الزمن تيهاً؟ ألا يكفينا؟ سؤال كبير يحتاج لإجابة صادقة ربما أو لنقل من المؤكد أنها لن تتوفر.