بين مخيمي البداوي والبارد تختلف المشاهد، ولكن الهواجس واحدة. في مخيم البداوي يشتد الاكتظاظ ويتحول عبئاً، أما المخيم البارد بثقل النزوح فتعود إليه الروح، ويصبح شيء من الزحمة عنصر طمأنينة. خلف الزحمة المزعجة هنا والمرجوة هناك، يمتد حبل الأسئلة المتصلة، وتتسلل المواقف من دون أن يجرؤ أحد على البوح بها. وبرغم ما أشيع ويشاع عن مشاركة أفراد من مخيمي البارد والبداوي في الأحداث السورية، لا يزال قادة الفصائل والمنظمات يتمسكون بعبارات النأي بالنفس. لكن الشارع ينبض، على المنوال اللبناني، بما هو مختلف.
يقوم محمد رميح بتوزيع الخبز على دكاكين البداوي. أصعد إلى جانبه في الفان لأتحدث إليه، فينساب في زواريب المخيم وصولاً إلى دكانه الخاص في آخر المخيم. ترتطم مؤخرة الفان بسيارة لبيع الخضر من هنا، وبعربة لبيع الحلوى من هناك، لكن رميح لا يعير انتباهاً لذلك، بل يستمر بإلقاء التحيات على من يصادف في الطريق. والمخيم، الذي أنشئ في عام 1955 لاستيعاب زهاء بضع مئات من العائلات، بات عدد سكانه يناهز عشرين ألفاً، وازداد اكتظاظاً بعد نزوح أهالي البارد إليه وبقاء قسم منهم فيه حتى الآن، وبعد أن وفدت إليه مئات العائلات الفلسطينية الهاربة من مخيمات سوريا.
ما إن يهمّ رميح بشرح هموم النازحين حتى تدخل «شحّادة» (متسولة) إلى دكانه، يعطيها قطعة نقدية صغيرة، فتطالب بالمزيد، يتأفف باستحياء ويلبيها حتى تنصرف. التسول «غريب عن مجتمعنا الفلسطيني» يقول رميح، ويضيف أنه لا يصدق «ادّعاء الفتاة أنها سورية، فهو ادّعاء غرضه إما الإساءة إلى سمعة سوريا، أو أن البعض يستغل غطاء الشحادة لمهمات أخرى». ثم يستطرد بالحديث عن أحد المساجد القريبة من مخيم البداوي، حيث توزع «كراتين» الإعاشات، وحيث تستبدل طواقم القيمين على توزيعها، بعد أن «تطلع ريحة الاستفادة» تلك التي من شأنها تحويل الفلسطينيين والسوريين إلى متسولين بدلاً من إعانتهم في ضائقتهم تلك.
دقائق وتدخل فتاة أخرى، تقول إنها من مؤسسة أو جمعية دنماركية، تهتم بدفع بدل إيجار الفلسطينيين النازحين من سوريا الى لبنان، وأنها تريد أن توقّع عقداً باسم مؤسستها مع رميح، وذلك بصفته صاحب منزل مؤجّر لفلسطيني نازح من سوريا. يسألها إذا كانت قد استأذنت اللجنة الشعبية قبل أن تجول في المخيم، وتبادر الى التعامل مباشرة مع الناس؟ يشرح لي سبب تشدّده بالسؤال «فماذا لو حصلت ارتكابات أمنية في المخيم تحت عباءة مساعدة الفلسطينيين النازحين؟».
يتساءل بعض أهالي المخيم عن الدور «الآخر» الذي تؤديه الجمعيات الدولية والمحلية في «خدمة النازحين»، وبخاصة بعد انكشاف أمر بعض المشاركة الفلسطينية في الأحداث السورية. يقول أحد أبناء مخيم البداوي «صحيح أن المشاركة في الأحداث لا تزال فردية»، ولكنّ للأفراد أسَراً وعائلات، والعائلات جزء من تنظيمات وفصائل. والمجتمع الفلسطيني كما منظماته، مهما علت تصريحات النأي بالنفس، لا يختلف كثيراً عن المجتمع اللبناني إن لجهة التأثر بالخطاب المذهبي، أو لجهة تأثير المال والخدمات والمصالح.
أما في مخيم البارد فالأمور تختلف من ناحية الشكل على الأقل. الكثافة السكانية لا تزال تشبه طموح سكان الجرود المقفرة وتعطشهم الى تكاثر السكان حولهم، خوفاً من الوحوش الكاسرة. والوحش الكاسر في مخيم البارد هو ذلك المظهر الشديد الوحشة لما تبقى من ركام الأبنية. شهر بعد آخر يطمئن أهل البارد لعودة الحياة إلى مخيمهم، والأشهر القليلة الماضية حققت لهم بعض المنجزات، لجهة إلغاء نظام التصاريح مثلاً، وتخفيف الإجراءات التي كانت صارمة على مداخل المخيم، وإعادة «حي جنين» إلى أصحابه. ومع ذلك، تتربص بهم هواجس مصدرها دويّ المدافع على الحدود اللبنانية السورية القريبة من ناحية، والأخبار المخيفة عن عودة التداول بملف «فتح الإسلام». هكذا، تتساءل والدة أحد الموقوفين عمّن أرسل الفارين الثلاثة إلى سوريا؟ وإذا كان السجن كما هو معروف مقفلاً، فـ«من فتحه غير ضباط الدولة؟». يعزز تلك المخاوف كون الحراك الشبابي في المخيم توقف في وسط الطريق بعد أن حقق جزءاً من المطالب.
يلتقي ميلاد سلامي مع شلة من أصدقائه الذين شاركوا في الحراك الشبابي في طرف المخيم على شاطئ البحر. لا يخفي سلامي امتعاضه مما آلت إليه الأوضاع بعد توقف الحراك، و«كأن المصالح الخاصة طغت على الشأن العام»، لذلك يعيش سلامي ما اعتبره «استراحة مقاتل»، علماً بأنه كان يأمل من خلف الحراك أن يتبلور وعي فلسطيني هنا، يتركز على الاهتمام بجوهر القضية، وبالمعاناة المصاحبة لها. أما زميله خليل الذي لا يطيق العيش خارج المخيم، فهو ينظر بريبة إلى ما يمكن أن يصيب المخيم على خلفية الأحداث السورية، ففي «كل عرس لنا قرص»، واللبنانيون يمكن «أن يختلفوا على كل شيء إلا على الفلسطيني». وهم، أي اللبنانيين، «الآن يهتفون ضد النظام السوري، وكالعادة ستحصل تسوية غداً وبتطلع الفلّة براس مين؟ بالطبع بالفلسطيني». ويضيف خليل الذي لديه الكثير من المبررات لكره النظام السوري «طيب إذا أنا ضد النظام، يعني رح كون مع مين؟». ويتوجه بسؤاله إلى الذين يغدقون السلاح لـ«قتال الأسد، ماذا فعلوا لإعادة إعمار البارد؟».
ينضم زكريا، الفلسطيني النازح من منطقة «الحجر الأسود» في ضاحية دمشق، إلى النقاش. وكان زكريا قد سكن مع أهله في براكسات الحديد، مثلما فعلت زهاء ثلاثين عائلة فلسطينية نزحت من سوريا. ينقل زكريا أخبار الحوادث الدامية في سوريا، والأخطر من ذلك ينقل مأزق الفلسطينيين وهم يزجّون، شاءوا أم أبوا، في أتون الأحداث السورية. الفلسطيني برأي زكريا هو الخاسر الأكبر في سوريا، فهو إما «عوايني» خائن لدينه وشعبه (بنظر المعارضة)، أو ناكر للجميل (بحسب السلطة).
في سوريا يختلف وضع الفلسطيني عمّا هو في لبنان. فهناك سبعمئة ألف فلسطيني، بينهم نسبة من المتطوعين في صفوف الجيش السوري توازي نسبة السوريين من عدد مماثل.
ومن جهة أخرى غادر قادة حماس سوريا، والسلطة الفلسطينية على جفاء تاريخي مع النظام السوري. فكيف سيكون مستقبل الموقف الفلسطيني في لبنان مع استمرار تدفق الفلسطينيين إلى المخيمات في لبنان؟ وفي النهاية، إن حُلّت أخيراً، أفلن يكون الفلسطيني أول من يدفع ثمن «تدخله في شؤون البلدان المستضيفة؟». يبدو السؤال والتخوف مشروعين.



متابعة وضع النازحين من سوريا إلى المخيمات الفلسطينية دلت على وجود عائلات سورية فضّلت سكنى المخيمات، كما دلت على أن كثيراً من النازحين لا علاقة لهم بالصراع الدائر هناك بين المعارضة والنظام، لكن دفعهم إلى ذلك قلة فرص العمل وتردّي الوضع المعيشي. تقيم المرأة الحلبية مع أسرتها بجوار أم نادر في البارد التي ترحب بها، «فنحن ذقنا أكثر من مرة مرارة النزوح ومشاكله». تقول المرأة الحلبية «لا أستطيع العيش إلا في المخيم. العيشة هنا أرخص وأسهل. وعلى أي حال أنا تركت حلب لأن زوجي لم يعد قادراً على دفع بدل إيجار المنزل».