حياة قليلة. تقل يوماً بعد يوم، ولكنها تزيد فجأة على توقع حدوثها في النواحي الضيقة منك. هكذا فجأة بعد دمار عظيم، لا تزال صدمته حاضرة حتى اليوم، تخرج من ثوب لتلبس ثوباً آخر من دون أن تتغير معالم المأساة أبداً. فما هي هذه القنينة التي سجنت فيها أيها المكان الفلسطيني ليصير اسمك المخيم ويصير الاسم قاتماً ومجنوناً إلى هذا الحد ؟
جنون شطر حياتنا نصفين: نصف لا يعنينا، ونصف يعنينا ويبكينا. نصف من الجرح الغائر الذي ترسخ في الذهن، هو الوطن، ونصف دخل علينا ليلتصق بحياتنا من أبواب غريبة لم نعرف كيف تسرّبت إلى أحلامنا فجرحتها. هل لأن هذا المكان معزول وفقير تتحرش به عباءات سود لتغطيه أكثر؟ أم أن طراوة قلبه الجاهزة للانفجار في أي لحظة تعدّه لأن يحتمي بأي فكرة تحوز داخله المثقل بالأحزان؟
الهويّة تسألنا كل يوم: من أنتم حتى تخبئوا أسئلتكم للحياة؟ تقفزون إليّ من باب الموت؟ لكنّ الهوية أيضاً لا تعلم أنّها أوسع من حدودها الضيّقة، أوسع من نفسها. أنها لم تأت من تفاصيل الأجداد فقط، لكنها مرآة رغباتنا الموؤودة في الأسئلة نفسها. الهويّة لم تكتشف مرة أخرى من خلال وعي الماضي، ولم تعد تسأل وتحوّلت في أذهاننا إلى صور تستفيق كلّما استفاق الحنين، الهوية كما قال محمود درويش «هي فساد المرآة التي يجب أن نكسرها كلما أعجبتنا الصورة»، فمتى كسرنا المرآة؟
أعجبنا بأنفسنا بكل تفاصيلها، أبطال قبل أن نسقط وبعد أن نسقط، أبطال لأن ماضينا بطل، برغم انكساراتنا الكبيرة والكثيرة. وحتى لو خفنا أو بكينا أو متنا. وأما قولنا إننا أخطأنا، فهذا خطأ، فيما ماضينا سلسلة أخطاء، وهذا هو الطبيعي: أن نكون أخطأنا كبشر. تغزّلنا بأننا طردنا ولجأنا وبأننا عدنا لنبني من جديد وبأننا عشنا بين الرّكام والحرائق لكأننا قطط خلقنا لنصارع الأشياء الباقية من الحروب.
صورتان منك تشبهانك كثيراً: طفل صغير بثياب «مشحبرة»، يخرج من المدرسة وكتب تثقل ظهره، ينحني على حجارة الطريق يرمي به طفلاً آخر بعيد، يركض تحت شمس حارقة باحثاً عن حجر آخر.
الطفلة التي تصرخ بلا وعي داخل غرفة مدرسية مغلقة، ولا أحد يفهم ماذا تفعل هذه الطفلة وأي جنون هذا الذي تركها تموء كقطة وتحرك أطرافها بقوة احتجاجاً ورغبة في الحياة.