أريد الكتابة عن فلسطين. تأملت في الورقة البيضاء طويلاً. أشعر كمن ينتظر صفارة الانطلاق. إلى أين سأنطلق، وإلى أين سأصل، لا أعلم. أشعر بتوتر ذكرني بيومي الأول من امتحانات الشهادة الرسمية، وعندما انتظرت نتيجة شهادتي الجامعية، والأهم من هذا كله عندما انتظرت لأعرف نوع الطفل الذي في بطني. توتر من يريد شيئاً ويتوق إليه ويعلم ما هو، لكنه خائف متوجس لربما طرأ تغيير في اللحظة الأخيرة.
الآن لا توجد هناك صفارة انطلاق، ولا أريد أن أكتب شعراً عن بلد لا أعرفه. إذ لطالما زرع في ذاكرتي أن فلسطين التي تطل قريتي طيرحرفا عليها والتي اعتدت نطق بعض الكلمات بلهجة أهلها مثل قول «بَنّدُورة»، أن ناسها باعوها وأتوا ليأخذوا بلداً ليس لهم. لكن كل ذلك تغير الآن، وما زلت أذكر ردّ فعلي عندما وصف أحدهم سكان أراضي الـ 1948 بـ«عرب إسرائيل»، أزعجني الوصف، وربط العرب بإسرائيل. اعترضت قائلة إنّ اسمهم عرب فلسطين وليسوا مذنبين ببقائهم هناك، بل يجب شكرهم لأنهم بقوا هناك. حينها لم أكن أملك الحجة والإقناع، ولم أعلم في ذلك الوقت لم دافعت عن عروبتهم رغم اقتناعي بأنهم كما قالوا لي باعوا أرضهم.
كبرت وكبر حب المعرفة داخلي، رتبت ذاتي وأعدت التدقيق في قناعاتي ومبادئي، فهي ستكون ذخيرتي للأيام الآتية. وجدت نفسي أغوص في أقوال السيد الإمام موسى الصدر، بحثت عن فلسطين بين كلماته، عن تلك الخريطة الضائعة وإذا ما كانت حقاً تعنيني. غصت في آلام شعب لا أعلم لماذا وضعت الحواجز بيني وبينه ملقية عليه التهم التي تبين أنها باطلة. في رحلة البحث أحسست بأن القضية أكبر مما كنت أعرفه وأعتقده. حاولت قراءة وجوه الفلسطينيين لأرى قضيتهم وهل حقاً الهوية تشترى وتباع؟
اكتشفت أن ما يجري في فلسطين عبارة عن حرب كونية، ولا نبالغ إذا استخدمنا هذه الصفة على ما يجري في تلك البقعة من الأرض. فهذه الحرب سالم فيها من سالم، وباع فيها من باع، في ظل اتفاق عالمي وخذلان عربي لإعطاء أرض لمستوطنين لا يملكون في فلسطين أي ذرة حق أو تراب. اكتشفت أن الهوية هي قضية فلسطين، وحربنا ليست فقط ضد إسرائيل. تآمر العالم على بيع القضية الفلسطينية ولم يكتفوا بذلك، بل أحكموا على أهلها الحصار. فمنع عنهم السلاح، وكتب عليهم إما الرضى بذلك أو الخروج منها. وكأن ظلم الفلسطينيين لم يكن كافياً، وكأن لجوءهم لم يكن موجعاً بما فيه الكفاية، حتى وجدوا أنفسهم في واقع معيشي رديء. كل هذا الألم لم يكن كافياً فسلّط عليهم إعلاماً شيطنهم وشوه صورتهم وغيب وجعهم. فلا نعرف معاناتهم ولا نسمع صدى أوجاعهم، يعيشون القتل اليومي والتهجير وتدنيس المقدسات والعالم غائب وفي غيبوبة كمن غفا على أغنية «يلا تنام يلا تنام».
اليوم ينتفض أبناء فلسطين وهم يقاومون بحجر وسكين. أعلم أن ذلك لن يعيد الأرض، لكن الأهم هو مشاهدة العنفوان والكرامة في عيني وقبضات المقاومين. لن أسترسل بعد في كتابتي، وسأتوقف هنا، لكنني اليوم في حالة سلام داخلي، لأنني أصبحت متيقنة بأن مقولة «الفلسطيني باع أرضه»، كذبة أنتجها إعلام الحرب الأهلية. اليوم في سوق بيع وشراء المواقف يجب أن تبقى فلسطين فوق هذه المزايدات السطحية. وفلسطين بالنسبة إليّ مثل آلام أرادها الله أن تكون لنا، قد لا تكون أفضل أو أجمل والدة، لكننا لا نقارنها بأحد. فلسطين هي أمنا، إذا أصابها شر سندافع عنها حتى الموت، هكذا يجب أن تكون أوطاننا كلها مثل أمهاتنا وأغلى، وهكذا هي فلسطين بالنسبة إليّ.