القدس المحتلة | لا تكاد قرية مقدسية تخلو من اختراق استيطاني، إما بمصادرة أراضي الفلسطينيين وإما بالاستيلاء على البيوت وإقامة حدائق توراتية. لكن قرية سلوان، الواقعة إلى الجنوب من المسجد الأقصى، وتعدّ الحاضنة الجنوبية له، تحتل الجزء الأكبر من الاهتمام الاستيطاني، مقارنة بغيرها من القرى. لسلوان أهمية مزدوجة للإسرائيليين، سياسياً ودينياً، فهي بالنسبة إليهم مقر «دولة داود الأولى»، التي أقيمت قبل ثلاثة آلاف عام، كما أن قربها من الأقصى جعلها ذات أهمية استراتيجية، ما دفع أحد المسؤولين الإسرائيليين إلى القول إن «من يسيطر عليه (المسجد الأقصى)، سيسيطر على القدس برمتها».
ومن يزر هذه القرية يرَ بيوتاً متلاصقة ومركبة كقطع «الليغو»، بعضها فوق بعض. تمتد القرية على مساحة 5640 دونماً، وتضم اثني عشر حياً يسكن فيها 53 ألف فلسطيني. لكن المشهد العام لسلوان يتغير فور تدقيق الناظر فيها، فتلتقط العين الأعلام الإسرائيلية، وهي ترفرف على بيوت متفرقة في القرية، الأمر الذي غيّر الطابع الفلسطيني لها.
تمزيق النسيج الفلسطيني، وتقليص عدد ساكني البلدة المقدسيين، مهمّة عدد من الجمعيات الاستيطانية التي توظف جلّ ميزانياتها في سبيل تحقيق هذه الأهداف، كجمعية «إلعاد» و«عطيرت كوهنيم». والأخيرتان استولتا على عقارات كثيرة، إما عن طريق التزوير وإما بالإغراءات المالية للسكان، بالإضافة إلى دور سلطة الآثار الإسرائيلية التي تصادر الأراضي بحجة أنها تحتوي «آثاراً قديمة قد تعود إلى زمن الهيكل». بهذه الطرق، وصل عدد البؤر الاستيطانية هنا إلى 75، موزعة بين عقارات سكنية مستقلة، أو في تجمعات أو أراضٍ خالية.
قضية حي «بطن الهوى»، الذي يتوسط البلدة، من أكثر القضايا التي شغلت السكان في الآونة الأخيرة. فالاحتلال سلم 95% من سكانه، البالغ عددهم 300 فرد، قرارات إخلاء منازلهم بدعوى أنها مقامة على أراضٍ تعود ملكيتها إلى يهود يمنيين سكنوا القدس عام 1881، وبهذا فإن بيوت الفلسطينيين المقامة عليها من وجهة نظر الاحتلال تعود إلى هؤلاء اليهود... «الأرض وما عليها لصاحب الأرض».
«نسكن في منزلنا هذا منذ 60 عاماً، أي قبل سيطرة الاحتلال على القدس، وبحوزتنا جميع الأوراق الثبوتية التي تؤكد ذلك»، يقول رئيس لجنة الحي زهير الرجبي، «يحاول المستوطنون إثبات أننا لا نسكن بيوتنا إلا من سنوات قليلة لا تتعدى العشر، في محاولة للالتفاف على القانون الإسرائيلي الذي يمنحنا الأحقية في ملكية الأرض كوننا عمّرناها لمدة تزيد على 30 عاماً».
لم يكتف الاحتلال بتقديم قرارات إخلاء لسكان «بطن الهوى» ورفع قضايا ضدهم، بل حاول «تطفيش» السكان بالقوة وبأساليب عدة. تروي المقدسية أم محمد عواد أن «المستوطنين يقومون بين حين وآخر برشقهم بغاز الفلفل، ما تسبب لها بمشكلات في جهاز التنفس»، بالإضافة إلى تحويل باب بيتها إلى مكب نفايات، وهو ما يضطرها يومياً إلى كنس الشارع أمام بيتها وفتح طريقه.
كذلك لم يسلم صغار الحي من بطش المستوطنين. الطفل زيد أبو قويدر (12 عاماً)، هو أحد ضحايا اعتداء المستوطنين بعدما ركله أحدهم على وجهه، فاضطروا إلى نقله إلى المستشفى. حدث ذلك عند استيلائهم على بيت عائلة أبو ناب في تشرين الثاني الماضي. واعتداء المستوطنين على أطفال الحي لا يزال مستمراً وهو ما أدى إلى خلوّ شوارعه من الأطفال، فقد يكون أي طفل موجود في الشارع فريسة جديدة لهم.
إلى الشمال من حي «بطن الهوى»، في منطقة «وادي حلوة» تحديداً، وعلى بعد 50 متراً من المسجد الأقصى، صادق «المجلس القطري للتخطيط والبناء»، أخيراً على إنشاء أكبر مركز تهويدي في مدينة القدس بمساحة 12 ألف متر مربع على 10 دونمات. وسيتكون من ست طبقات لاستخدامات متعددة، كغرف تعليمية ومكاتب لجمعية «إلعاد» الاستيطانية وموقف سيارات وقاعة مؤتمرات واستخدامات سياحية...
يرى أهالي «وادي حلوة» أن المشروع استكمال لتهويد الوادي، ونقطة انطلاق للمصادقة على مشاريع تهويدية أخرى ستقام في سلوان. كما يذكر مدير «مركز معلومات وادي حلوة»، جواد صيام، أن «الأرض المنوي إقامة مشروع (كيدم) عليها أرض زراعية استولت عليها بلدية الاحتلال عقب احتلالها مدينة القدس عام 1967، ثم سربتها لجمعية إلعاد الاستيطانية بطرق ملتوية عام 2003».
أيضاً، أقامت سلطة الآثار الإسرائيلية و«إلعاد» حفريات كبيرة في الأرض منذ عام 2006، كشفت عن وجود مقبرة إسلامية وآثار أموية وحارة عباسية ومقبرة إسلامية تحوي 100 جثة، بالإضافة إلى آثار رومانية قديمة.
في السياق، يقول المسؤول عن قضية الأرض في «وادي حلوة»، المحامي سامي أرشيد، إنه سيقدم التماساً ضد قرار «المجلس القطري للتخطيط والبناء»، في المحكمة الإسرائيلية، كونه يرى أن قراره غير قانوني. ورُفض سابقاً إقامة المشروع بعد تقديم السكان ومؤسسات حقوقية إسرائيلية استئنافات على مطالب جمعية «إلعاد» بإقامة المشروع، لكن أرشيد أكد أن جهات سياسية إسرائيلية هي التي ضغطت على المجلس من أجل الموافقة على المشروع.
أما في وسط بلدة سلوان، فإن «حي البيسان» تسكنه 90 عائلة مهددة بالإخلاء وهدم منازلها، وذلك بحجة إقامة حديقة توراتية مكانها تحمل اسم «حديقة الملك»، حيث تدعي البلدية أن تلك البيوت غير مرخصة، ومقامة على أرض زراعية وحديقة توراتية قديمة تعود إلى ثلاثة آلاف عام مضت، مع أنه لا يوجد أي دليل يثبت وجود تلك الحديقة!
بيوت القرية متلاصقة كقطع «الليغو» وتعلو بعضها أعلام إسرائيلية

وعن بناء تلك البيوت من غير ترخيص، فهو نتيجة الزيادة السكانية الطبيعية في البلدة، بالإضافة إلى عدم إعطاء رخص بناء للفلسطينيين، ما اضطر السكان في الثمانينيات إلى البناء بطريقة مخالفة.
يذكر باحث الآثار نظمي الجعبة، في دراسة له بعنوان «القدس بين الاستيطان والحفريات»، أن الاحتلال ينفذ «أربع حفريات كبيرة في بلدة سلوان، هي: حفرية موقف سيارات غفعاتي التي سيقام عليها المركز الاستيطاني (المذكور)، وحفرية أرض صيام التي تبعد عن سور القدس 150 متراً فقط، وحفرية عين سلوان حيث يجري الحفر فيها بثلاث مناطق موزعة على شمال العين وجنوبها وعند بركة العين». أما الحفرية الرابعة، فهي «حفرية تلة الضهور التي يطلق عليها الاحتلال مسمى مدينة داود، حيث أنشأ في جزء منها مبنى دعائياً يروي تاريخ مدينة القدس من خلال روايات إسرائيلية غير موثوقة».
تخلص الدراسة إلى أن الاحتلال ينوي ربط تلك الحفريات بواسطة شبكة من الأنفاق تمتد من سلوان إلى داخل سور بلدة القدس القديمة، حيث تربط القرية بحائط البراق والنفق «الحشمونائيم» الذي شق في أسفل الرواق الغربي للمسجد الأقصى. وتدعي الرواية الإسرائيلية أن سلوان جزء من العقيدة اليهودية كونها جزءاً من هيكل سليمان وعاصمة دولة داود، لكن المختص في الدين اليهودي عمر مصالحة، فنّد الادعاء. يقول مصالحة لـ«الأخبار»، إن «سلوان أو ما يسمى في التوراة شلوح، ذكرت فعلاً في الكتاب اليهودي، لكن لا يوجد أي دلالات على أرض الواقع تنص على أن ما ذكر في التوراة هو سلوان الموجودة جنوب المسجد الأقصى اليوم». وأضاف: «حتى مدينة أورشليم التي ذكرت في التوراة لا يمكن تحديد ما إذا كانت هي مدينة القدس اليوم أم لا؛ لا توجد أي دلالات أو قرائن واضحة تثبت ادعاءات اليهود».
وأوضح الباحث أن كل ما يجري في سلوان ومحيط الأقصى ما هو إلا «لعبة سياسية تهدف إلى الاستيلاء على الأقصى، لذا تقوم الجمعيات الصهيونية بتوظيف الدين سياسياً من أجل حشد أكبر تأييد لها لتحقيق أجنداتها»، مبيناً أن «ما يسمى المسيحيين المتجددين يقومون بدعم الجمعيات الاستيطانية الإسرائيلية مادياً من أجل إفراغ القدس من الفلسطينيين وإقامة عاصمة إسرائيل الموحدة، التي باعتقادهم هي مؤشر على اقتراب نزول المخلص المنتظر».
ولا تنحصر إجراءات الاحتلال في سلوان على تكثيف المشاريع الاستيطانية، بل تتعرض للكثير من عمليات هدم البيوت وتحرير مخالفات لأصحاب المحالّ التجارية، فضلاً عن حملة الاعتقالات التي طاولت كل بيت في البلدة، من أجل تهجير السكان وإحلال مستوطنين مكانهم لتصير القدس في عام 2030 ذات غالبية إسرائيلية.
من الجدير بالذكر أن الجمعيات الاستيطانية تقدم مبالغ وإغراءات مالية لكل مستوطن تصل إلى 130 دولاراً مقابل كل يوم يسكن فيه في سلوان، بالإضافة إلى أنها توظف لهم فرق حماية تكلّفهم سنوياً ما يقارب مليونَي دولار.